الطريق إلى الله
تعريفات تقديمية:
كثيراً ما نسمع لفظ الطريق إلى الله . فماذا يعني ذلك؟ هل نحن سائرون فعلاً
في طريق يوصًل في نهايته إلى الله؟ إذا نظرنا للأمر على أن كل الخلق
صالحهم وطالحهم سوف يقفون بين يدي الحق سبحانه وتعالى للحساب يوم القيامة
فتلك هي نهاية الطريق. ولكن الطريق إلى الله المقصود هاهنا هو طريق الناجين
والصالحين، الذين يسعون لتحقيق مراد الله من خلقه لهم إرضاءً له. لذلك لكي
نفهم أكثر لابد أن نعرف الغرض الذي خلقنا الله من أجله .
الغرض من الخلق :
لقد حدد الحق جل و علا الغرض من خلقه لنا في قوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن، الله هو الرزاق ذو القوة المتين )
في هذه الآية قصر الحق تعالى الغرض من خلقه لنا على أن نعبده باستخدامه
النفي و الاستثناء (ما و إلا) ونفى أن يكون الغرض من خلقه لنا إيجاد الرزق،
لأنه هو الرزاق ذو القوة المتين. قد يتساءل البعض، إن كان الله تعالى قد
قصر الغرض من خلقه لنا على العبادة، فما علاقة الآية السابقة بقوله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة)؟
إذا نظرنا بعمق إلى هذه الآية و الآية الأخرى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)
) لوجدنا أن الخلافة الحقة لا تأتي إلا بالعبودية الحقة ونتيجة لها. كيف؟
لابد أولاً أن نعرف معنى العبادة التي هي الغرض من الخلق، ثم نعرف بعد ذلك
معنى الخلافة، والمقصود منها، وكيفية القيام بها.
العبادة والخلافة:
معنى العبادة الطاعة بحب.
لأنك إن أحببت أحداً كنت له مطيعاً. إن المحب لمن أحب مطيع. ولكن كيف تحب
من لا تعرف؟ فالجهالة تنفي وجود المحبة. لذلك قال كثيرون أن معنى العبودية
في الآية المعرفة، وعلى رأس الذين قالوا ذلك سيدنا عبد الله بن عباس رضى
الله عنهما، حتى أنه كان يقرأ الآية (إلا ليعرفون) وكان يظن أنها هكذا
أنزلت. إذاً فمعرفة الله تؤدي بالعبد إلى حبه،وحبه يؤدي إلى طاعته. أي أن
معنى هذا أن أكثر الخلق معرفة بالحق أكثرهم له طاعة، وأشدهم له حباً.
ومن أكثر معرفة بالله ممن كان قاب قوسين أو أدنى، من كان خلقه القرآن، من
وصفته زوجته السيدة عائشة أم المؤمنين عليها رضوان الله بذلك. لهذا؛
فالنموذج المحمدي يمثل أعلى درجات التحقق بالعبودية. لذلك حين مدحه ربه قال
(عبد الله و رسوله) وحين أخبرنا الحق تعالى عن أخطر رحلة في تاريخ بني آدم
رحلة الإسراءِ والمعراج ذكر سيدنا محمد بأعلى صفة على الإطلاق فقال (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) قال تعالى بعبده ولم يقل برسوله ولا بنبيه. فاختار تعالى أشرفَ صفة، ألا وهي صفة العبودية.
أما قوله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة):
الخليفة هو الذي يقوم بتنفيذ واتباع النظام الذي وضعه المستخلف. لذا
فالخلافة تعني القيام بتنفيذ نظام الله، وإتباع نواميسه التي وضعها بغير
إفساد للأرض. فإذا كانت العبادة الغرض من الخلق ، فالخلافة هي الوظيفة
المناط تحقيقها بالعبد الذي هو المخلوق ليكون عبدا مطيعا لخالقه.
ومن أشد البشر حرصاً على تنفيذ مراد الله ممن هو متحقق بالعبودية والطاعة والحب؟
لقد قال تعالى (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)
أي أن الفساد يظهر في الأرض نتيجة لابتعاد الناس عن نظامه الذي وضعه ،
مثل مشاكل التلوث في الهواء والماء والغذاء، وأيضاً أمراض لم تكن موجودة،
أو على الأقل لم تكن منتشرة كالإيدز والفشل الكلوي وغيرها. لِم يا رب ؟ (ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) إلام يرجعون ؟
يرجعون إلى النظام الذي وضعه الله لكل شئ. أليسوا الآن يرجعون إلى
المقاومة البيولوجية أو الحيوية للحشرات الضارة بعد استخدام المبيدات
الكيماوية سنوات طويلة؟ ليس المهم العودة إلى النظام الإلهي فقط ولكن
المهم هو العودة إلى عدم الغفلة عن الله لتحقيق الغرض من وجودنا في هذه
الدنيا. أي أن تنجح في الامتحان والاختبار، و تكون النتيجة ناجح حين ينتهي
وقت الإجابة، حين تخرج الروح من الجسد بالموت الذي نتناساه في حين أنه
النهاية الوحيدة و الأكيدة لكل فرد منا. فسبحانه و تعالى يقول (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئٍ قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور)
خلق الإنسان:
لم يأمر الله الملائكة بالسجود إلا لآدم من الخلق لذلك قال (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )
فالروح الموجودة في الإنسان لا بد وأن تكون مختلفة عن الروح الموجودة في
باقي المخلوقات. وهذا يؤيد صحة ما روي عن الإمام علي أن الروح ملك عظيم
الشأن تخلق من نفخته أرواح باقي المخلوقات، رغم أن هذا الحديث ليس مرفوعا.
وقوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من
صلصال من حمإ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد
الملائكة كلهم أجمعون)
في هذه الآيات ثلاث نقاط: التسوية، ونفخت فيه من روحي، وسجود الملائكة أجمعون.
التسوية :
قد تعني الاستواء ،أي جعله مستوي الطرفين كقوله تعالى ( و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها ) . وقد تعني الاكتمال و الإتمام كقوله تعالى (فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا )
نفخت فيه من روحي :
النفخ يعني سريان شيء في شيء آخر فيغير من صفاته أو شكله أو الاثنين معا.
ونفخ الله من روحه في الصلصال من حمأ مسنون جعله بشرا .
ومعنى نفخ الروح الذي يوجب سجود الملائكة هو تجلي أسماء لله وصفات من صفاته
في العبد وتخلقه بها ، بما يجوز التخلق به من أسماء وصفات لله .
وقوله تعالى عن سيدنا عيسى ( وروح منه ) تعني أسماء وصفات محددة و ليس كل
الصفات الإلهية، لأن روح هنا منكرة ومفردة مما يفيد تعدد أنواع وأعداد
الأرواح التي يمكن أن ينفخها الله، حتى في سيدنا آدم قال (نفخت فيه من
روحي) ولم يقل ونفخت فيه روحي لأن (من) هنا تفيد التبعيض؛ لأن هذه الروح
التي نفخت منحت صفات وأسماء لآدم، وهي ليست جميع صفات الله وأسمائه لأنها
لا يحاط بها بأي شكل أو كيفية. ودليل ذلك دعاءه صلى الله عليه وسلم (اللهم
أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك
أو استأثرت به في علم الغيب عندك) أي أن هناك أسماء لله لا يعلمها أحد.
واختلاف اللفظ بين (ونفخت فيه من روحي) (آدم) وبين (وروح منه وكلمة ألقاها إلى مريم)
(عيسى)، ناتج من اختلاف طريقة تنفيذ النفخة، في أن (نفخت فيه من روحي)
عمل قام به الحق تعالى بدون واسطة. أما بالنسبة للمسيح فالذي قام بالتنفيذ
هو الملك. لذلك أكد الحق تعالى أنه هو مصدر هذه الروح حتى لا يتوهم أن
للملك دور أكثر من عامل التسليم.
سجود الملائكة أجمعون:
سبحانه وتعالى جعل التسوية والنفخ من روحه شرط لسجود الملائكة لآدم عليه السلام وبالتبعية لأبنائه من البشر.
وسبحانه وتعالى حين قال (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) ) لم يضع أي استثناء لأي من الملائكة، فحتى الملائكة الكبار كسيدنا جبريل داخلين في هذا الأمر بالسجود.
والسجود يعني الطاعة والخدمة والمساعدة والتأييد لبني آدم الذين وجب السجود لهم.
فسيدنا جبريل كان هو الذي ينزل على الأنبياء بالوحي (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين).
وهو روح القدس الذي كان مؤيدا لسيدنا عيسى عليه السلام (إذ
قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح
القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة
والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني
وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل
عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين).
والملائكة تتنزل على الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تبشرهم وتخبرهم بأنهم يتولونهم في الحياة الدنيا و الآخرة؛ قال تعالى (إن
الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا
تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا
وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون. نزلا من غفور
رحيم).
الخلافة والوسطية: (الفكرة التوازنية للعبد في الإسلام).
سبحانه وتعالى وهو الذي سمى نفسه العدل، لا يمكن أن يطلب من عبده أمرا ليس في إمكانه و طاقته ، فهو القائل (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
فلكي يتمكن الخليفة الذي اختاره من القيام بمهامه فلا بد من أن يعطيه
الحق جل وعلا من القوى والصفات التي تمكنه من القيام بمهمة الخلافة.
ولعل ذلك يفسر الحديث (إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقه) للطبراني في الكبير عن أبي عنبة.
فالحق سبحانه وتعالى لا يحل في مكان، فلا يحيط به المكان، فلابد وأن ذلك له معنى آخر. فإذا وضعنا قوله صلى الله عليه وسلم (إن
لله لوحا من زبرجد خضراء تحت العرش كتب فيه أنا الله لا إله إلا الله أنا
أرحم الراحمين خلقت بضعة عشر و ثلاثمائة خلق، من جاء بواحد منها مع شهادة
أن لا إله إلا الله دخل الجنة) وهو للبيهقي في الأوسط، مع الحديث
السابق الذكر لفهمنا أن المقصود في الحديث هو تجلي أسماء الله وصفاته التي
ليست من أسماء الذات في قلب العبد المؤمن، وانعكاسها من القلب على ظاهره
سلوكا. وهذا جائز، بل هو مطلوب من العبد تحقيقه.
فإذا أخذنا معنى التسوية على أنه الاكتمال، فالتسوية المذكورة في الآيات (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) اكتمال تخلق العبد المقصود بالخلافة بالمسموح لمخلوق التخلق به من أسماء الله وصفاته، (و نفخت فيه من روحي ) أي أفضت عليه من أسمائي وصفاتي.
وأكثر البشر تخلقا بما طلبه الله من عباده سيدنا رسول الله صلى الله عليه و
سلم، الذي (كان خلقه القرآن) فهو الصورة المثلى للعبودية لله و مدحه
سبحانه و تعالى في مواضع كثيرة في القرآن بصفة العبد. وهذا واضح من قوله
تعالى (وكذلك جعلناكم أمة و سطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا).
في هذه الآية ثلاثة أمور:
الأول: أن أمة المسلمين أمة وسطا.
الثاني: أن يكونوا هم الأمة المثلى التي تقاس عليها الأمم.
الثالث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو النموذج الأمثل لأمته الذي تقاس عليه الأمة.
نتيجة لذلك يكون هو صلى الله عليه وسلم النموذج الأمثل الذي يقاس عليه كل بني آدم بما فيهم الأنبياء (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)
ولكن ما هي الوسطية التي تميزت بها أمة الإسلام و نبيها صلى الله عليه و سلم أولا؟
نحن نعرف أن الإنسان مكون من روح ونفس وجسد وقلب وعقل، وسبحانه وتعالى حين
خلق الإنسان في أحسن تقويم جعلهم في صورة توازنية مثلى، كل له دور وواجب و
حق.