لم يكن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كمولد أي إنسان آخر أياً كان قدره من أنبياء الله الصالحين أو ولياً من أولياء الله المكرمين .
فقد
شاء الله عز وجل أن يذكر للعرب وظيفتهم الدولية عندما جعل قبلة العالمين
في أرضهم، وعندما طالب البشر في كل مكان أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام
، قال تعالى : ( وَمِنْ
حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ
مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
(1) ، يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله : " إذا قيل إن موسكو قبلة
الشيوعيين في العالم، فليس معنى ذلك اتجاه اليساريين إلى جدار في الكرملين،
بل المعنى أن يستقوا أفكارهم ويتلون توجيهاتهم من هناك، والواقع أن القرآن
الكريم في سياق تحديده للقبلة قال للعرب في جلاء : (وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ
الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا
عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَـانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (2).
والآية
توضح الوظيفة التي اختارها القدر لأمتنا، فإن الله اختار محمداً ليحمل
أمانات الوحي، وليكون بسيرته وسنته أسوة حسنة، وقد تلقى العرب ذلك منه
ليعلموا الناس كما تعلموا، وليهدوهم كما اهتدوا، أو ليكونوا أساتذة العالم
كما كان محمداً أستاذاً لهم ، وحتى تقوم هذه الأمة بوظيفتها فقد تفضل الله
عليها بمنحة جليلة وذلك أن جعلها ( أُمَّةً وَسَطًا ) في كل شئ .
ومن
لطائف القرآن أن يذكر منة الله على الأمة بالوسطية في معرض الحديث عن
تحويل القبلة إلى المسجد الحرام بمكة؛ ثم يأتي العلم الحديث ليقرر وسطية
هذا المكان ووقوعه في سرة الأرض كم يقولون .
*
والوسطية يقصد بها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين،
كالوسطية بين الروحية والفردية والجماعية، والواقعية والمثالية، إلخ ..
يقول
الشيخ محمد عبده رحمه الله : "إن الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين:
قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة، فلا همَّ له إلا الحظوظ الجسدية
كاليهود والمشركين، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة وترك الدنيا
وما فيها من اللذات الجسمانية كالنصارى والصائبين وطوائف من وثنيى الهند
أصحاب الرياضات .
وأما
الأمة الإسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين: حق الروح ، وحق
الجسد ، فهي روحانية جسمانية، وإن شئت قلت إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية،
فإن الإنسان جسم وروح، حيوان وملك ، فكأنه قال : جعلناكم أمة وسطاً تعرفون
الحقين، وتبلغون الكمالين : (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الجسمانيين بما فرطوا في جنب الله، و الروحانيين إذ أفرطوا وكانوا من الغالين، تشهدون على المفرطين بالتعطيل القائلين: ( وَقَالُوا
مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ)
(3) ، بأنهم أخلدوا إلى البهيمية وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا
الروحانية، وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين: إن هذا الوجود
حبس للأرواح وعقوبة لها، فعلينا أن نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات
الجسمانية وتعذيب الجسد تشهدون عليهم بأنهم خرجوا عن جادة الاعتدال، وجنوا
على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواها الحيوية، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء
وتسبقون الأمم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الأمور كلها، ذلك بأن ما هديتم
إليه هو الكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال، لأن صاحبه يعطي كل ذي حق حقه ،
يؤدي حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه، وحقوق ذوي القربى، وحقوق سائر
الناس"، (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)
أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط، وإنما
تكون هذه الأمة وسطاً باتباعها له في سيرته وشريعته، وهو القاضي بين الناس
فيمن اتبع سنته ومن ابتدع لنفسه تقاليد أخرى أو حذا حذو المبتدعين، فكأنه
قال : إنما يتحقق لكم وصف الوسط إذا حافظتم على العمل بهدي الرسول واستقمتم
على سنته، وأما إذا انحرفتهم عن هذه الجادة فالرسول صلى الله عليه وسلم
بنفسه ودينه وسيرته حجة عليكم بأنكم لستم من أمته التي وصفها الله في كتابه
بهذه الآية، وبقوله : (
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ
أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون )(4) ، بل تخرجون بالابتداع من الوسط وتكونون في أحد الطرفين كما قال الشاعر(5) :
كانت هي الوسط المحمى فاكتفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً.
إن
الأمة الإسلامية بما منحها الله من نعمة الإسلام لتمثل حقاً الوسط بكل
معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى
الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.
(
أُمَّةً وَسَطًا ) في التصور والاعتقاد لا تغلوا في التجرد الروحي ، ولا
في الارتكاس المادي ، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد
تتلبس به روح، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد .
(
أُمَّةً وَسَطًا ) في التفكير والشعور... لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ
التجربة والمعرفة، ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك،
إنما تستمسك بما لديها من تصورات، ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر
والتجريب، وشعارهم الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت
ويقين .
(
أُمَّةً وَسَطًا ) في التنظيم والتنسيق، لا تدع الحياة كلها للمشاعر،
والضمائر ، لا تدعها كذلك للتشريع والتأديب، إنما ترفع ضمائر البشر
بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه
وتلك ، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان
ولكن مزاج من هذا وذلك .
(
أُمَّةً وَسَطًا ) في الارتباطات والعلاقات . لا تلغي شخصية الفرد
ومقوماته ، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك
فرداً أثراً جشعاً لا هم له إلا ذاته.. وتقرر من التكاليف والواجبات ما
يجعل الفرد خادماً للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق .
( أُمَّةً وَسَطًا ) في المكان .. في سرة الأرض .. وفي أوسط بقاعها(6) .
(
أُمَّةً وَسَطًا ) في الزمان تنهي عهد الطفولة البشرية من قبلها وتحرس عهد
الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من
أوهام وخرافات من عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتزاوج بين
تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير
بها على الصراط السوي بين هذا وذاك .
وما
يعوق هذه الأمة عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت
عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي
اختارها الله لها، واصطغبت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها، والله
يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها، وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها خليقة بأن
تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها (7).
نسأل الله أن يرد الأمة إلى دينها ووسطيتها رداً جميلاً . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين