الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد،
1) فإنّ العرب قومٌ قد فاض وجدانهم بحنين الشعراء، ولواعج الرثاء؛ فكانوا يُهرَعون إلى البكاء؛ تعبيراً عن مشاعرهم عند فِقْدانِ الخِلاّن، أو مُفارَقة الأوطانِ، أو تذكُّرِ سالفِ الأزمانِ، كما قال امرؤ القيس:
2) والبكاءُ تعبيرٌ نبيلٌ عن شعورٍ أصيلٍٍ، كما ذكر عمر بن عثمان قال: دخل المنصور أمير المؤمنين قصراً،
وتحته مكتوبٌ:"إيه إيه". فقال المنصور:"أيّ شيءٍ (إيه إيه)؟ فقال له الربيع ـ وهو يومئذ تحت يد أبي الخصيب الحاجب ـ يا أمير المؤمنين إنه لمّا كتب البَيْتَ؛ أحبّ أن يُخبِر أنه يبكي، فقال له قائله: اللهَ ما كان أظرفَه؛ فكان هذا أول ما ارتفع به الربيع".
3) وقد عبّر الأدباء عن توارد البكاء والضحك على قلب الإنسان؛ تبعاً لتوارد الأفراح والأحزان، على نحو ما ذكر المفسّرون. وهو معنىً مطروقٌ في الشعر العربي، كما قال دِعْبَل الخزاعي:
4) وما أحسنَ تعبيرَ صاحب الظلال عن البكاء بأنه "حالةٌ معروفةٌ في النفس البشريّة، حين يبلغ بها التأثّرُ درجةً أعلى من أن يَفِيَ بها القولُ؛ فيفيض الدمعُ ليؤدّي ما لا يؤدّيه القول، وليُطلِق الشحنة الحبيسة من التأثّر العميق العنيف".
5) وقد نظم القُشَيري رحمه الله في هذا المعنى شعراً بديعاً، :
6) وإنّ وراءَ فيضِ المدامِعِ: آلاماً وفواجعَ، وآمالاً لَوامِعَ، وهموماً هَوامِعَ؛ تقض المضاجع! كما روى الدّارمي أنّ أيوب السختياني بكى عندما قرأ قول أم أيمن
ولكنّي أبكي على خبر السماء انقطع!)؛ قال حمّاد بن زيد: "خنقتْ العَبْرةُ أيوبَ حين بلغ ها هنا".
7) وقد يهيّج الدمعَ عَبْرةٌ دافِقَةٌ، أو عِبْرَةٌ فائقةٌ، أو عِبارةٌ رائِقَةٌ، كما قال الجُنَيْد:"كنتُ بين يدي السّري ألعب، وأنا ابن سبعِ سنين، فتكلّموا في الشكر، فقال: يا غلام ما الشكر؟ فقلتُ: أن لا يُعصى الله بنعمه؛ فقال: أخشى أن يكون حظُّك من الله لسانَك؛ قال الجنيدُ: فلا أزال أبكي على قوله)!
والبكاءُ فطرةٌ بشريّةٌ؛ كما ذكر أهل التفسير، فقد قال القرطبي في تفسير قول الله تعالى
وأنّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)[النجم 43]:" أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء...وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سَرَّه وأبكى من شاء بأن غَمَّه...وقال محمد بن علي الترمذي: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبد الله: أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم.
9) ولعلّ في قول العرباض بن سارية رضي الله عنه ـ وهو أحد البكّائين ـ (وَعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب)؛ ما يدلّ على وشيجةٍ رابطةٍ بين القلوب الواجفة والعيون الذارفة؛ فبكاء العين ـ لعمري ـ علامةٌ على حُرقة الجَنان وحسرة الوجدان!
10) ورحم الله أهل الأمثال ما أصدقَ قولَهم:"عينٌ عَرَفَتْ؛ فذَرفَتْ"! فالبكاء بابٌ واسعٌ، وعلمٌ نافعٌ. وهو يشمل أنواعاً كثيرةً،