ولا
غرو أن عُنِي القرآن الكريم
بالتوكل، أمراً به، وثناءً على
أهله وبياناً لفضله وآثاره في
الدنيا والآخرة.
أمر الله
رسوله بالتوكلأمر الله به
رسوله صلى الله عليه وسلم في تسع
آيات من كتابه:
في القرآن المكي نقرأ قوله
تعالى: ( ولله غيب السموات والأرض
وإليه يرجع الأمر كله فاعبده
وتوكل عليه ) (هود: 123).
( وتوكل على
الحي الذي لا يموت وسبح بحمده )
(الفرقان: 58).
( وتوكل على
العزيز الرحيم * الذي يراك حين
تقوم * وتقلبك في الساجدين * إنه
هو السميع العليم )
(الشعراء: 217 - 220).
( فتوكل على الله، إنك على الحق
المبين ) (النمل: 79).
وفي القرآن المدني نقرأ قوله
سبحانه:
( فاعف عنهم
واستغفر لهم وشاورهم في الأمر،
فإذا عزمت فتوكل على الله، إن
الله يحب المتوكلين ) (آل
عمران: 159).
( ويقولون
طاعةٌ فإذا برزوا من عندك بيَّت
طائفةٌ منهم غير الذي تقول،
والله يكتب ما يبيِّتون، فأعرض
عنهم وتوكل على الله، وكفى بالله
وكيلاً ) (النساء: 81).
( وإن جنحوا
للسَّلم فاجنح لها وتوكل على
الله، إنه هو السميع العليم
(الأنفال: 61).
( وتوكل على
الله، وكفى بالله وكيلاً )
(الأحزاب: 3).
( ولا تطع
الكافرين والمنافقين ودع أذاهم
وتوكل على الله، وكفى بالله
وكيلاً ) (الأحزاب:
48).
وجاء الأمر بالتوكل للرسول
الكريم في موضع عاشر، ولكن بصيغة
أخرى وهيقوله
تعالى: ( رب المشرق والمغرب لا
إله إلا هو فاتخذه وكيلاً )
(المزمل: 9).
وذلك من أوائل ما نزل من القرآن،
حتى يستعين بالتوكل على الله في
حمل " القول الثقيل " الذي
ألقاه الله عليه، ومواجهة
المكذِّبين أُولي النعمة،
والصبر على ما يقولون، وهجرهم
الهجر الجميل.
كما أمر صلى الله عليه وسلم
بإعلان التوكل على الله تعالى في
أكثر من آية، مثل قوله
تعالى: ( قل هو الرحمن آمنا به
وعليه توكلنا )
(الملك: 29)، وهذا في القرآن
المكي، ومثل قوله
تعالى: ( فإن تولوا فقل حسبي الله
لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو
رب العرش العظيم )
(التوبة: 129)، وهذا في القرآن
المدني.
ومن المعلوم أن الأوامر التي
خوطب بها النبي صلى الله عليه
وسلم، موجهة إلى كل المكلَّفين
من أمته كذلك، ما لم يقم هناك
دليل على الخصوصية، كما في قوله
تعالى: ( خذ من أموالهم صدقةً
(التوبة: 103) ، (
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة )
(النحل: 125) ، (
وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً
من الليل، إن الحسنات يذهبن
السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين *
واصبر فإن الله لا يضيع أجر
المحسنين ) (هود: 114).
فالأمر للرسول صلى الله عليه
وسلم بالتوكل أمر لأمته جميعاً
به.
أمر
المؤمنين عامة بالتوكل:
وقد جاء
الأمر بالتوكل للمؤمنين عامة
على ألسنة الرسل السابقين، كما
في قوله تعالى
في رد الرسل على أقوامهم: ( قالت
لهم رسلهم إن نحن إلا بشرٌ مثلكم
ولكن الله يمَّن على من يشاء من
عباده، وما كان لنا أن نأتيكم
بسلطان إلا بإذن الله، وعلى الله
فليتوكل المؤمنون )
(إبراهيم: 11).
وجاء الأمر كذلك على لسان رجلين
من أصحاب موسى يحثان قومهما على
دخول الأرض المقدسة، وعدم
التهيب من الجبارين فيها:(
قال رجلان من الذين يخافون أنعم
الله عليهما ادخلوا عليهم الباب
فإذا دخلتموه فإنكم غالبون،
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم
مؤمنين )المائدة:
23).
فجعل التوكل شرطاً لثبوت
الإيمان، والشرط ينتفي عند
انتفاء المشروط، ولا يقال: إن
هذا كان شرع من قبلنا، فإن شرع من
قبلنا شرع لنا، ما لم يرد نسخ له
في شرعنا، وإلا كان ذكره عبثاً،
ولم يكن لنا فيه عبرة ولا أُسوة
وهو خلاف ما نص عليه القران.
وشرعنا لم ينسخ التوكل بل زاده
توثيقاً وتأكيداً.
فقد جعله الله تعالى من الأوصاف
الأساسية للمؤمنين الصادقين،
وذلك في قوله
سبحانه: ( إنما المؤمنون الذين
إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا
تُليت عليهم آياته زادتهم
إيماناً وعلى ربهم يتوكلون *
الذين يقيمون الصلاة ومما
رزقناهم ينفقون * أولئك هم
المؤمنون حقاً[
(الأنفال: 2 - 4)، كما أمر الله
تعالى به في كتابه ]بقوله:
( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله
لنا هو مولانا، وعلى الله
فليتوكل المؤمنون )
(التوبة: 51)، ]وقال
تعالى: ( إن ينصركم الله فلا غالب
لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي
ينصركم من بعده، وعلى الله
فليتوكل المؤمنون )[] (آل
عمران: 160)، (
الله لا إله إلا هو، وعلى الله
فليتوكل المؤمنون )
(التغابن: 13) ، وورد الأمر كذلك في
سورة المائدة الآية رقم (11)
والمجادلة الآية رقم (10)
]التوكل
خُلق الرسل جميعاً:
وقد أكد لنا
القرآن أن " التوكل " كان
خلق رسل الله جميعاً، منذ نوح
شيخ المرسلين إلى محمد خاتمهم،
صلوات الله عليهم جميعاً.
يقول تعالى
على لسان الرسل جميعاً: ( ومالنا
ألا نتوكل على الله وقد هدانا
سبلنا، ولنصبرن على ما
آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل
المتوكلون )[ (إبراهيم:
12).
وقال على
لسان نوح: ( يا قوم إن كان كبُر
عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله
فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم
وشركائكم ثم لا يكن أمركم عليكم
غُمةٌ ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون
(يونس: 71).
وقال تعالى على لسان هود وقد
خوَّفوه أن تعتريه آلهتهم بسوء!
فقال متحدياً: (
إنِّي أشهد الله واشهدوا أنِّي
بريء مما تشركون * من دونه،
فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون *
إنِّي توكلت على الله ربي وربكم ) (هود:
54 - 56).
وقال تعالى على لسان إبراهيم
والذين معه، الذين تبرؤوا من
قومهم ومما يعبدون من دون الله: (
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا
وإليك المصير )
(الممتحنة: 4).
وقال
سبحانه على لسان شعيب: ( إن أُريد
إلا الإصلاح ما استطعت[
وما توفيقي إلا بالله، عليه
توكلت وإليه أُنيب ) (هود:
88).
]وقال في شأن
موسى: ( وقال موسى يا قوم إن كنتم
آمنتم بالله فعليه توكلوا إن
كنتم مسلمين * فقالوا على الله
توكلنا ربنا لا تجعنا فتنة للقوم
الظالمين * ونجِّنا برحمتك من
القوم الكافرين (يونس:
84 - 86).
]القرآن
يبين آثار التوكل:
وقد جعل
الله تعالى الإيمان شرطاً
للتوكل [في
قوله: ( وعلى الله فتوكلوا إن كتم
مؤمنين )[ (المائدة:
23) والمعلَّق على شرط ينتفي
بانتفائه، فإذا انتفى التوكل
انتفى الإيمان.
وقال تعالى
في بيان أثر التوكل: ( ومن يتوكل
على الله فهو حسبه )
(الطلاق: 3) ، فجعل نفسه تعالى
جزاء للمتوكل وأنه كافيه وحسبه،
وكفى بهذا فضلاً، فقد
قال في السورة نفسها: ( ومن يتق
الله يجعل له مخرجاً )
(الطلاق: 2) ، فجعل لها جزاءً
معلوماً، وجعل نفسه تعالى حسب
المتوكل وكافيه.
كما أخبر تعالى
أنه: ( يحب المتوكلين ) (آل
عمران: 159)، وأي درجة أعلى مِن
درجة مَن يحبه الله عز وجل؟ قال
الغزالي: وأَعظِمْ بمقام موسوم
بمحبة الله تعالى صاحبه، ومضمون
كفاية الله تعالى مُلابسه، فمن
الله تعالى حسبه وكافيه، ومحبه
وراعيه، فقد فاز الفوز العظيم،
فإن المحبوب لا يعذَّب ولا يبعد
ولا يحجب.
وقال تعالى:
( أليس الله بكافٍ عبده )
(الزمر: 36) فطالب الكفاية من غيره
والتارك للتوكل، هو المكذِّب
بهذه الآية، كما يقول الغزالي،
فإنه سؤال في معرض استنطاق
بالحق.
وقال عز
وجل: ( ومن يتوكل على الله فإن
الله عزيز حكيم )
(الأنفال: 49) ، أي " عزيز " لا
يذل مَن استجار به، ولا يضيع من
لاذ بجنابه،, والتجأ إلى ذمامه
وحماه، و " حكيم " لا يقصر عن
تدبير من توكل على تدبيره.
وقال تعالى:
( إن الذين تدعون من دون الله
عبادٌ أمثالكم )
(الأعراف: 194) ، فبين أن كل ما سوى
الله تعالى عبد مسخر، حاجته مثل
حاجتكم، فكيف يُتوكل عليه؟!
وقال تعالى:
( إن الذين تعبدون من دون الله لا
يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند
الله الرزق واعبدوه )
(العنكبوت: 17).
وقال عز
وجل: ( ولله خزائن السموات والأرض
ولكن المنافقين لا يفقهون )
(المنافقون: 7).
قال الإمام الغزالي: وكل ما
ذُكِر في القرآن من " التوحيد
" فهو تنبيه على قطع الملاحظة
عن الأغيار، والتوكل على الواحد
القهَّار.