الفرق بين التصوف الإسلامي وألوان الروحانية العالمية
الباحث طه عبد الباقي سرور :
التصوف الاسلامي هو أعلى قمة حامت حولها المحاولات العالمية للكمال الروحي ، والمعارف اللدنية ، حامت حولها الجهود العالمية ، ولا أقول بلغتها ، لأن سبل الكمال الروحي قد تعددت بتعدد الفلسفات وتعدد الوسائل والغايات .
فقد حاول قوم أن يقتبسوا من نور هذا الكمال بالتصفية والتخلية ، كرجال الفلسفة الاشراقية .
وحاول قوم أن ينالوه بالنسك والطهارة كزهاد اليوجا الهندية .
وحاول آخرون أن يبلغوه بالاستغراق والتأمل ، كأصحاب المذاهب النظرية
والفلسفية .
وعدة هؤلاء وهؤلاء لبلوغ هذا الكمال ، جهد بشري وسبل ابتدعوها ومذاهب اعتنقوها وعاشوا لها . وهي وإن وصلت بهم إلى ألوان من هذا الكمال . إلا أنها ألوان مستعارة لا أصلية ، لأنها منحرفة الغاية ، وإن استقامت الوسيلة . وقد ترقى أرواح هؤلاء وهؤلاء حتى تأتي بما يشبه الإلهام ، وبما يشبه الخوارق والكرامات ، إلا أنها قد تضل وتشقى ، لأنها اقتبست هداها من داخلها ، ولم تقتبس هداها من خالقها وموجدها .
أما التصوف الإسلامي ، فقد تتشابه وسائله في الزهد والنسك والتصفية والتخلية والتأمل والطهارة ، مع هؤلاء وهؤلاء . ولكنه تشابه عرضي وتقارب شكلي . لأن التصوف ليس مذهباً من مذاهب الفلسفة . وليس نحلة من نحل الزاهدين والمتأملين . وليس هدفه من تلك الوسائل ما تهدف إليه الفلسفة من كمال عقلي وطاقة نظرية . وما ينشده الزهاد والنساك من إطلاق لقوى الروح ، حتى تأتي بالعجائب والغرائب .
وإنما التصوف الإسلامي : كمال في العبادة . وكمال في الطاعة . وكمال في
العبودية . هو محبة الله . وعمل على رضاه ، وأمل في نجواه ، هو أنشودة يشترك فيها القلب والروح والحس والجوارح ، أنشودة تسبح بحمد الله لا تفتر ولا تهدأ لأن لحنها دائم الحياة في القلب ، دائم الحياة في الروح ، دائم الحياة في الإدراك والحس .
أنشودة تحيل الكون بأسره إلى آية ربانية . يلمسها القلب كما تراها العين وتسمعها الأذن . كما تدركها الروح . فإذا بكل شيء محراب . وإذا بكل شيء مصلى . وإذا بالصوفي لا يبرح المحراب ولا يفارق المصلى ، أينما توجه بوجهه وسبح بفكره . إنه دائم مع الله فهو متأدب بأدب من أحس يقيناً في كل لمحة بصر بأن الله معه يسمع ويرى .
وما يأت بعد ذلك من علم وفيض . وما يأت بعد ذلك من خارقة أو كرامة ، وما يأت بعد ذلك من كمال روحي أو إشراق نفسي ، فهو نافلة ، لأنه وسيلة لا غاية ، وسلم لا هدف .
فالمعارف الصوفية إذاً ثمرة الكمال في العبادة ومنحة الفيض في الطاعة وأنوار القلب في محبته ونجواه . إنها حلى الطريق ، لا أساسه وروحه .
وإذاً فلا سبيل إلى إقامة صِلة من الصلاة بين التصوف الإسلامي وبين أي لون من ألوان الروحانية العالمية .
ولا سبيل إلى المقارنة بين المعارف الصوفية الإسلامية وبين المعارف الفلسفية والنظرية العقلية التي جرت على وجه الأرض مع أعّنة التاريخ الإنساني .
فتلك المذاهب الفلسفية والعقلية ، قد استمدت معارفها من التفوق العقلي تارة ومن الصفاء الروحي تارة أخرى ، أما التصوف الإسلامي ، فمعارفه ، نَبْعُها ، عقيدته الإسلامية ، ومددها : فيض رباني داخل نطاق تلك العقيدة القرآنية ، وبأسرار عبادتها ، وبذلك تحددت رسالة التصوف وعرفت ضوابطها ، بينما أعنت المعارف الروحانية الأخرى ، لا تقبض عليها يد تتحاكم إليها ، ولم ترسم لها شريعة ترجع لها ولم تنبت معارفها في حقل إيماني سماوي يمنعها من النزوات والاندفاعات .
التصوف الإسلامي آية ، سرها في الهدى القرآني والروحانية المحمدية ، وإني لأحسبه أحياناً آية كونية لأنه ضرورة لازمة لهذا الوجود وغاية من غايته وحجتنا قوله تعالى : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْأِنْسَ إِلّا ليَعْبُدونِ . والتصوف هو أكمل صور العبادات لخير أمة أخرجت للناس . لأنه تطوع دائم للعبادات . تطوع بعد الفرائض والنوافل . ولهذا لم يكن شرعة عامة بل كان ميزة خاصة لمن أخذ الكتاب بقوة واصطفاه الله واتاه عزماً وعلمه من لدنه علماً .
وإذاً فلن نغالي إذا قلنا : أن قمة المعارف اللدنية التي بلغتها الاجنحة الصوفية الإسلامية لم تبلغها بل لم تدن منها الأجنحة الأخرى . لأنها قمة المحبة الربانية وهي قمة لا تصل إليها إلا الأجنحة المحمدية المؤمنة العابدة .
المصدر: طه عبد الباقي سرور – الشعراني والتصوف الاسلامي – ص51 – 53 .
منقول[b]