من
الشعارات التي يهتف بها كثيرون – العودة إلى أخلاق القرية – فمع التغيرات
المتلاحقة في المجتمع المصري ، كادت تجرفه الثقافات الوافدة ، وبدأت ملامح
الشخصية المصرية تهتز فاضطربت قيمها وتقاليدها وتنكرت لماضيها ، فاحتجبت
خلف متاع زائف من دعاوى التقدم والعصرية ، وتغير بها لذلك كثير من مظاهر
سلوكها .
وحتى
لا يتوقف هذا الأمل عن مجرد مرحلة الشعار , وحتى لا تضرب الظنون وتتشعب
طرائق قددا , فتعتسف الطريق إلى هذا الأمل , وتنشده في غير موضعه ، أرى من
اللازم رسم صورة واضحة المعالم لملامح السلوك عند ابن القرية المصرية ،
وأرى أنه لتوضيح هذه الصورة لابد من البحث عن العوامل ذات الأثر في بناء
الشخصية القروية المصرية ولا أجدني بحاجة إلى القول بأن الدين الإسلامي هو
المؤثر الأساسي والعامل الأول والأقوى في بناء هذه الشخصية في أصالتها
ونقائها , ولا بد من إجلاء القشور الزائفة التي تتراكم يوما بعد يوم كالصدأ
الذي يغطى على المعدن الأصيل فيحجب رواءه ويطمس بهاءه ، فسلوك القروي
المصري في صورته النقية وأصالته ينبثق من دينه وهداه ، ولحمته مستمدة من
تعاليم دينه بحيث يسيطر الدين على كل حركاته وسكناته ويوجهه الوجهة التي
يرضيها له ، وسأحاول إبراز ذلك مستشهداً ببعض المظاهر السلوكية على سبيل
المثال لا الحصر ..
فالقروي
المصري يحافظ على صلاته , ويحرص على أدائها في وقتها , ففي الوقت الذي كنا
نراه يسكن في أكواخ من اللبن أو الطين أو القش كان يهتم بتشييد المسجد " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ " سورة النور 36 ، فكنا نرى بناء المسجد في قرية الأمس أبرز الأبنية فيها .
وهم
في الدعوة إلى أفراحهم لا ينسون صلاتهم فعبارة الدعوة المشهورة " تصلى
العصر تشرب قهوة عند فلان . . " فالصلاة أمر مفروغ منه , وحقيقة لا تحتاج
إلى جدال . .
وكأن
بالداعي يقول : إن لم تصل العصر فلا تأت على أن العبادة تقتضى أن الصلاة
أمر معتاد ، وليست قضية مطروحة للبحث ، كما نلحظ أنهم يربطون مواعيدهم كلها
بالصلاة فلا تكاد تسمع منهم مواعداً لا يرتبط بالصلاة – " سأزورك بعد صلاة
المغرب سأذهب إلى الحقل بعد صلاة الفجر – أو تاني صلاة " ، ثم هو لحرصه
على صلاته يصطحب المسجد معه في مكان عمله .. ففي نهار الكادح في حقله تجده
وقد أعد أماكن لأداء الصلاة يطلق عليه اسم المصلَّى ، حيث يقوم ببناء دَرَج
ممهد على شاطئ الترعة حتى يسهل الوضوء من مائها ، ثم هذا المكان المعد
للصلاة بحائط من الطين ، يرتفع قليلاً عن الأرض ، ويقوم بفرشها بأعواد القش
، ويفيض عليها من القداسة ما يضفيه على المسجد سواء بسواء ، فينأى بها عن
مرابط المواشي ، ويحافظ عليها من التلوث حتى لا يشغله العمل عن أداء الصلاة
، إذ يسرع إذا سمع النداء أو تأكد من دخول الوقت إلى المصلى تاركاً عمله
بعض الوقت ، فيتوضأ ويصلى وعندئذ تصفو نفسه ، ويسترد نشاطه ، فيستأنف عمله
وهو راضى النفس ، قرير العين ، غنى بالله عن كل الأغنياء شكور نعمة الله .
ثم هو حريص كل الحرص على إخراج زكاة زرعه يوم حصاده ، وكثيرا ما يتجاوز القدر الواجب فما عند الله لا يضيع .
ومن مظاهر ذلك أيضا حرصه على إلقاء السلام ورده ، وامتهانه لألفاظ التحية الأخرى مثل صباح الخير ..
وقد
كنت عندما أذهب إلى المدينة أجدني بلا شعور ألقى السلام على من أمر به ،
فيرى في ذلك سلوكا غير مألوف ، فلا ألبث أن أترك ذلك ، ثم أعود إلى القرية
فيؤخذ علَّى في أيامي الأولى عدم إلقاء السلام ، وفى مناسبة العزاء في ميت
يمتد الطابع الإسلامي واضحاً في عباراته المألوفة – " عظم الله أجرك "
فيجيبه " شكر الله سعيك " فالله عندهم هو كل شيء وهم لا يطمعون إلا في رضاه
وفى هذا القدر كفاية . .
وإلى لقاءات أخرى نستوضح فيها أثر هذا التكوين الديني في العلاقات الإنسانية والروابط الأسرية .
أقول هذا وقد بدأت عوامل التغير تعصف بهذه الروح ولكن الحق هو الأبقى " فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ " سورة الرعد 17