أما بعد .. عباد الله .. مدرسة ستفتح أبوابها بعد أيام قليلة .. فهل ترى نحيا
فندرك هذه المدرسة ونلتحق بها؟ وإذا التحقنا بها هل نخرج منها مع الفائزين أو
الخاسرين؟ .
إنها مدرسة رمضان .. مدرسة التقوى والقرآن .. وموسم الرحمة والغفران .. والعتق
من النيران .
أيام معدودة وتستقبِل الأمّة هذا الزائرَ المحبوب بفرحٍ غامِر ، وسرورٍ ظاهرٍ .
يا رَمَضان، إنّ يومَ إقبالك لهوَ يومٌ تتفتح له قلوبُنا وصدورُنا، وتمتليء فيه
نفوسنا غبطةً وأمَلاً، نستبشر بعودةِ فضائِك الطاهر الذي تسبَح به أرواحُنا بعد
جفافِها وركودِها، نستبشر بساعةِ صلحٍ مع الطاعاتِ بعدَ طول إعراضِنا وإباقنا،
أعاننا الله على بِرِّك ورفدِك، فكم تاقت لك الأرواحُ وهفَت لشدوِ أذانِك
الآذانُ وهمَت سحائبُك الندِيّة هتّانةً بالرّحمة والغفران .
عبادَ الله، مَن مِنَ المسلمين لا يعرِف فضلَ هذا الشهرِ وقدرَه، فهو سيِّد
الشهور وخيرُها، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، من صامه
وقامه غفِر له ما تقدَّم من ذنبِه، فيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهر، وقد ثبت في
الصحيحَين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن صام رمَضان إيمانًا واحتسابًا
غفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدم
من ذنبه، ومن قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه .
إن بلوغ رمضان نعمة عظيمة ، وفضل كبير من الله تعالى ، حتى إن العبد ببلوغ
رمضان وصيامه وقيامه يسبق الشهداء في سبيل الله الذين لم يدركوا رمضان .
فعن طلحة بن عبيدالله أن رجلين من بلى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان إسلامهما جميعا فكان أحدهما أشدَ اجتهادا من الآخر ، فغزا المجتهد منهما
فاستشهد ، ثم مكث الآخر بعده سنة ، ثم توفي ، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا
أنا عند باب الجنة ، إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر
منهما ، ثم خرج فأذن للذي استشهد ، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد.
فأصبح طلحة يحدث به الناس ، فعجبوا لذلك ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وحدثوه الحديث ، فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله ، هذا
كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد ، ودخل هذا الآخر الجنة قبله!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى .
قال: وأدرك رمضان ، فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة ، قالوا: بلى . قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض . رواه
ابن ماجه وصححه الألباني .
الله أكبر .. إنه رمضان شهرُ المرابح ، زائرٌ زاهر، وشهر عاطِر، فضلُه ظاهر،
بالخيراتِ زاخر، فحُثّوا حزمَ جزمِكم، وأروا الله خيرًا مِن أنفسكم، فبالجدّ
فاز من فاز، وبالعزم جازَ مَن جاز، واعلَموا أنّ من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق
فشله، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهِد في رمضانَ ما لا يجتهِد
في غيره. أخرجه مسلم[1].
رمضان .. شهرُ القبول والسّعود ، والعتقِ والجود ، والترقّي والصّعود، فيا
خسارة أهلِ الرّقود والصّدود، فعن أنس رضي الله عنه قال النبيّ : ((قال الله
عزّ وجلّ: إذا تقرب العبد إلي شبرًا تقرّبت إليه ذِراعًا، وإذا تقرّب مني
ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة)) أخرجه البخاري .
هذا نسيم القَبول هبّ، هذا سيلُ الخير صَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا
الشّيطان كبّ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إذا جاء رمضانُ
فتِّحت أبوابُ الجنة، وغلقت أبواب النّار، وصفِّدت الشياطين)) متّفق عليه، وعنه
رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا كانت أوّلُ ليلة مِن رمضان صُفّدت
الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبوابُ النار فلم يفتَح منها باب، وفتِّحت أبواب
الجنة فلم يُغلَق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ
أقصِر، ولله عتقاء من النّار، وذلك كلَّ ليلة)) أخرجه ابن ماجه.
أيها الأحبة .. قرُب منا رمضان فكم قريب لنا فقدناه، وكم عزيز علينا دفنّاه،
وكم حبيب لنا في اللحد أضجعناه. فيا من ألِف الذنوبَ وأجرمَا، يا مَن غدا على
زلاّته متندِّمَا، تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحبّ أن يجود ويرحمَا،
ويُنيلَ التّائبين فضلَه تكرُّمًا .
يا من أوردَ نفسَه مشارعَ البوَار، وأسامَها في مسارح الخَسار، وأقامَها في
المعَاصي والأوزار، وجعلها على شَفا جُرفٍ هار، كم في كتابك من زَلل، كم في
عملِك من خلَل، كم ضيّعتَ واجبًا وفرضًا، كم نقضتَ عهدًا محكمًا نقضًا، كم
أتيتَ حرامًا صريحًا محضًا، فبادِر التّوبة ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك
فائتًا قبل أن لا تُقال العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، وأظهِر النّدم
والاستغفار، فإنّ الله يبسُط يده بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل، ويبسط يدَه
باللّيل ليتوبَ مسيء النّهار.
يا أسيرَ المعاصي، يا سجينَ المخازي، هذا شهرٌ يُفَكّ فيه العاني، ويعتَق فيه
الجاني، ويتجَاوَز عن العاصي، فبادِر الفرصَة، وحاذِر الفوتَة، ولا تكن ممّن
أبى، وخرج رمضان ولم ينَل فيه الغفرانَ والمُنى، صعد رسول الله المنبَر فقال:
((آمينَ آمينَ آمين))، فقيل: يا رسول الله، إنّك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين
آمين!! فقال : ((إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: مَن أدرك شهرَ رمضانَ فلم
يُغفَر له فدخَل النار فأبعَده الله قل: آمين، قلت: آمين)) أخرجه ابن خزيمة
وابن حبان .
يا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف
والتفريط وبئست البضاعة .. هذا موسم تفتح فيه الجنان وتغلق فيه أبواب النيران.
عباد الله .. كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم
يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشاب هنا ينتهي عن
الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فليتحق بالصفوة.
أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، إذا تليت عليهم آيات الله
جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والبصائر؟! أما لنا
فيهم أسوة؟!
حينَما يستقبِل المسلم موسمًا يرجو غنيمَتَه فإنّه يجب عليه ابتداءً تفقُّدُ
نفسِه ومراجعةُ عملِه ، حتى لا يتلبَّس بشيءٍ من الحوائِلِ والموانِعِ التي
تحول بينَه وبين قبولِ العمَل ، أو تُلحِق النقصَ فيه؛ إذ ما الفائِدة من
تشميرٍ مهدورٍ أجرُه وعمَلٍ يرجَى ثوابه فيلحقُ وِزره؟! فعلى العبد الصائم أن
يتفقه في دينِ الله ، ويجتنب الذنوبِ والمعاصي ومحبِطات الأعمال ، ويحرص على
إعفافُ الجوارح .
قال ابن رجب رحمه الله: "واعلَم أنه لا يتِمّ التقربُ إلى الله بتركِ هذه
الشهواتِ المباحَة أصلاً في غيرِ حالِ الصيام إلاَّ بعد التقرُّب إليه بتركِ ما
حرّم الله في كلّ حالٍ كالكذب والظلمِ والعدوان على الناس في دمائِهم وأموالهم
وأعراضهم". الخ كلامه رحمه الله .
وإذا كان الأمر كذلك ، فليحذر الصائم مما أعدّه أهلُ الانحلال ودعاةُ الفساد
والضّلال، من برامج مضِلّة ، ومشاهدَ مخِلّة، قومٌ مفسدون لا يبَالون ذمًّا،
ومضلون لا يخافون لَومًا، ومجرِمون لا يراعون فطرًا ولا صومًا ، عدوانًا
وظلمًا، جرَّعوا الشباب مسمومَ الشّراب، وما زادوهم غيرَ تتبيب، وتدميرٍ وتخريب
.
يا هؤلاء .. إن رمضان خيرُ الشّهور، فحذارِ حذار من انتهاكِ حرمتِه، وتدنيس
شرفِه، وانتقاصِ مكانتِه، يقول رسول الهدى : ((من لم يَدَع قولَ الزّور والعملَ
به فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابه)) أخرجه البخاري[6].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه .
عباد الله .. هذا هو رمضانُ .. شهرُ تزكيةِ النفوس وتربيتِها ، أعظم القرُبات
فيه : الصومُ الذي افترضه الله تعالى تحقيقًا للتّقوى .. (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) .. والتّقوى حساسيّةٌ في الضمير ،
وصَفاء في الشعورِ ، وشفافيّة في النفس ، ومراقبةٌ لله تعالى، فالصّوم ينمِّي
الشعورَ بالمراقبة ، ويزكِّي النفس بالطاعة.
أمَّا ثواب الصائمين فذاك أمرٌ مردُّه إلى الكريم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه
أنَّ النبيَّ قال: ((قال الله عزّ وجلّ: كلُّ عمَلِ ابنِ آدم له إلاَّ الصّوم،
فإنه لي وأنا أجزِي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صومِ أحدكم فلا يرفث ولا
يسخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله فليقُل: إني امرُؤ صائم. والذي نفس محمّد
بيده، لخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله يومَ القيامة من ريح المسك، وللصائم
فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه)) رواه
البخاري ومسلم، وفي رواية عندهما: ((يدع طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي)) ، وفي
صحيح مسلم أنّ النبيّ قال: ((ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنّ إذا
اجتُنِبت الكبائر)).
فاتقوا الله عباد الله .. واحرصوا على النية الصالحة والعزم الجاد على الاجتهاد
في طاعة الله في رمضان .. وحري بأفراد الأسرة ، والقرابة ، والجيران ، وزملاء
المهنة ، أن يتواصوا بالحق ، ويتعاونوا على أعمال البر والتقوى في هذا الموسم
المبارك ، أسأل الله تعالى أن يمن علينا ببلوغه ويحسن عملنا فيه .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك
فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..
اللهم أيقظنا من سبات الغفلات قبل الممات، اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا
عليه حتى نلقاك وأنت راض عنا غيرُ غضبان .
اللهم بلغنا رمضان ، وأعنا على صيامه وقيامه وإتمامه، ووفقنا للقيام بحقك فيه
وفي غيره، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك ، صوابًا على سنة نبيك .