ما
هذه الغفلة وأنتم مستبصرون أخطاء يقع فيها كثير من الناس هناك أخطاء يقع
فيها كثير من الناس، وذلك ناتج عن الجهل بمفهوم التوبة، أو التفريط وقلة
المبالاة، فمن تلك الأخطاء مايلي:
1_ تأجيل التوبة: فمن الناس من يدرك خطأه، ويعلم حرمة ما يقع فيه، ولكنه
يؤجل التوبة، ويسوف فيها؛ فمنهم من يؤخرها إلى ما بعد الزواج، أو التخرج،
ومنهم من يؤجلها ريثما تتقدم به السن، إلى غير ذلك من دواعي التأجيل.
وهذا خطأ عظيم؛ لأن التوبة واجبة على الفور؛ فأوامر الله ورسوله"على الفور ما لم يقم دليل على جواز تأخيرها.
بل إن تأخير التوبة ذنب يجب أن يستغفر منه.
قال الغزالي أما وجوبها على الفور فلا يُسْتراب فيه؛ إذ معرفة كون المعاصي مهلكاتٍ من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور ([1]).
وقال ابن القيم المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز
تأخيرها؛ فمتى أخّرها عصى بالتأخر، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى،
وهي توبته من تأخير التوبة.
وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة[2]).
أخرج ابن أبي الدنيا في قصر الأمل عن عكرمة×في قوله_تعالى_: [وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ] سبأ: 53 قال: إذا قيل لهم: توبوا،
قالوا: سوف ([3]).
فعلى العبد أن يعجل بالتوبة؛ لوجوب ذلك؛ ولئلا تصير المعاصي راناً على
قلبه، وطبعاً لا يقبل المحو، أو أن تعاجله المنية مصراً على ذنبه.
ثم إنَّ تركَ المبادرة للتوبة مدعاة لصعوبتها، وسبب لفعل ذنوب أخرى.
قال النبي" صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبه، فإذا تاب، ونزع, واستغفر صقل قلبه منها.
وإذا زاد زادت حتى يغلف قلبه؛ فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه [كَلاَّ
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] المطففين: 14
([4]).
قال ابن الجوزي يا بطَّال إلى كم تُؤخر التوبة وما أنت في التأخير معذور؟
إلى متى يقال عنك: مفتون مغرور؟ يا مسكين ! قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد
الشهور، أترى مقبول أنت أم مطرود؟ أترى مواصل أنت أم مهجور؟ أترى تركبُ
النُّجبَ غداً أم أنت على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب
القصور ([5]).
وقال ما هذه الغفلة وأنتم مستبصرون؟ ما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون؟ كيف
نسيتم الزاد وأنتم راحلون؟ كم آبَ مَنْ قبلكم ألا تتفكرون؟ أما رأيتم كيف
نازَلهم نازل المنون؟ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ([6]).
2_ الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه: فكثير من الناس لا تخطر
بباله هذه التوبة؛ فتراه يتوب من الذنوب التي يعلم أنه قد وقع فيها، ولا
يظن بعد ذلك أن عليه ذنوباً غيرها.
وهذا من الأخطاء التي تقع في باب التوبة، والتي قلَّ من يتفطن لها؛ فهناك ذنوب خفية، وهناك ذنوب يجهل العبد أنها ذنوب.
قال ابن القيم ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه، ومما لا يعلم؛ فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه.
ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكناً من العلم؛ فإنه عاصٍ بترك العلم والعمل؛ فالمعصية في حقه أشد ([7]).
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.
فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟
قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ([8]).
فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب، ومما لا يعلمه العبد.
وجاء عن النبي" صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو في صلاته: اللهم اغفر لي
ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني؛ إنك أنت
المقدم والمؤخر لا إله إلا أنت+([9]).
وفي الحديث الآخر: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره ([10]).
فهذا التعميم، وهذا الشمول؛ لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه، وما لم يعلمه([11]).
3_ ترك التوبة؛ مخافة الرجوع للذنوب: فمن الناس من يرغب في التوبة، ولكنه لا يبادر إليها؛ مخافة أن يعاود الذنب مرة أخرى.
وهذا خطأ؛ فعلى العبد أن يتوب إلى الله، فلربما أدركه الأجل وهو لم ينقض توبته.
كما عليه أن يحسن ظنه بربه_جل وعلا_ويعلم أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، وأنه_تعالى_عند ظن عبده به.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي" صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال
الله_عز وجل_: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني ([12]).
ثم إن على التائب إذا عاد إلى الذنب أن يجدد التوبة مرة أخرى وهكذا...
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي" صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن
ربه_عز وجل_قال: أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال_تبارك
وتعالى_: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له ربَّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم
عاد فأذنب، فقال: أيْ ربّ اغفر لي ذنبي، فقال_تبارك وتعالى_: عبدي أذنب
ذنباً، فعلم أن له ربَّاً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد، فأذنب، فقال:
أيْ ربّ اغفر لي ذنبي، فقال_تبارك وتعالى_: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له
ربَّاً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت؛ فقد غفرت لك ([13]).
قال النووي في معنى الحديث قوله_عز وجل_للذي تكرر ذنبه: اعمل ما شئت؛ فقد غفرت لك معناه: ما دمت تذنب، ثم تتوب غفرت لك ([14]).
4_ ترك التوبة؛ خوفاً من لمز الناس: فمن الناس من تحدثه نفسه بالتوبة،
ولزوم الاستقامة، ولكنه يخشى لمز بعض الناس، وعيبهم إياه، ووصمهم له
بالتشدد والوسوسة، ونحو ذلك مما يُرمى به بعض من يستقيم على أمر الله، حيث
يرميه بعض الجهلة بذلك؛ فَيُقْصُر عن التوبة؛ خوفاً من اللمز والعيب.
وهذا خطأ فادح؛ إذ كيف يُقَدِّم خوف الناس على خوف رب الناس؟ وكيف يؤثر الخلق على الحق؟ فالله أحق أن يخشاه.
ثم إن ما يرمى به إذا هو تاب إنما هو ابتلاء وامتحان، ليمتحن أصادق هو أم
كاذب؛ فإذا صبر في بداية الأمر هان عليه ما يقال له، وإن حسنت توبته،
واستمر على الاستقامة أجلَّه من يُعَيّره، وربما اقتدى به.
أضف إلى ذلك أن الإنسان سيذهب إلى قبره وحيداً، وسيحشر إلى ربه وحيداً؛ فماذا سينفعه فلان وفلان ممن يثبطونه؟ .
5_ ترك التوبة؛ مخافة سقوط المنزلة، وذهاب الجاه والشهرة: فقد يكون لشخص
ما_منزلة، وحظوة، وجاه، فلا تطاوعه نفسه على إفساد ذلك بالتوب، كما قال أبو
نواس لأبي العتاهية، وقد لامه على تَهَتُّكه في المعاصي:
أتراني يا عتاهي
تاركاً تلك الملاهي
أتراني مفسداً بالنـ
سك عند القوم جاهي([15])وقد يكون للإنسان شهرة أدبية، أو مكانة
اجتماعية، فكلما هَمَّ بالرجوع عن بعض آرائه المخالفة للشريعة_أقصر عن ذلك؛
مخافة ذهاب الجاه والشهرة، وحرصاً على أن يبقى احترامه في نفوس أصحابه غير
منقوص.
ولا ريب أن ذلك نقص في شجاعة الإنسان ومروءته، بل إن ذلك نقص في عقله، وعلمه، وأمانته.
وإلا فالكريم الشجاع الشهم هو ذلك الذي يرجع عن خطئه، ولا يتمادى في غيه وباطله.
وذلك مما يرفعه عند الله وعند خلقه؛ فلماذا يستوحش من الرجوع إلى الحق؟
فمقتضى الدين، والأمانة، والمروءة أن يصدع بما استبان له من الحق، وألا
يمنعه من الجهر بذلك أن ينسب إلى سوء النظر فيما رآه سالفا ً؛ فما هو إلا
بشر، وما كان لبشر أن يبرأ نفسه من الخطأ، ويدَّعيَ أنه لم يقل ولن يقول في
حياته إلا صواباً.
ثم إن الشهرة والجاه عرض زائل، وينتهي بنهاية الإنسان؛ فماذا ينفعه إذا هو قَدِمَ على ربه إلا ما قَدَّمَ من صالح عمله.
ولقد أحسن من قال:
تُساءلني هل في صِحابك شاعرٌ
إذا متَّ قال الشعر وهو حزين
فقلت لها: لا هَمَّ لي بعد موتتي
سوى أن أرى أُخراي كيف تكون
وماالشعر بالمغني فتيلاً عن امرئ
يلاقي جزاءًَ والجزاءُ مهين
وإن أحْظَ بالرُّحْمى فمالي من هوى
سواها وأهواء النفوس شجون
فخلِّ فعولن فاعلاتن تقال في
أناس لهم فوق التراب شؤون
وإن شئتِ تأبيني فدعوة ساجدٍ
لها بين أحناء الضلوع أنين([16])_ التمادي في الذنوب؛ اعتماداً على
سعة رحمة الله: فمن الناس من يسرف في المعاصي، فإذا زجر، وليم على ذلك قال:
إن الله غفور رحيم، كما قال أحدهم:
وكَثِّر ما استطعت من الخطايا
إذا كان القدوم على كريم([17])
ولا ريب أن هذا الصنيع سفه، وجهل، وغرور؛ فرحمة الله قريب من المحسنين لا من المسيئين، المفرطين المعاندين، المصرين.
ثم إن الله_عز وجل_مع عفوه، وسعة رحمته_شديد العقاب، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
قال_تعالى_: [نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ] الحجر: 49.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي
درك الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدماً
منها إلى الدنيا بذنب واحد([18])قال أبو حامد الغزالي في شأن من
يذنب، وينتظر العفو عنه؛ اتكالاً على فضل الله_تعالى_قال: وهو كمن ينفق
جميع أمواله، ويترك نفسه وعياله فقراء، منتظراً من فضل الله_تعالى_أن يرزقه
العثور على كنز في أرض خربة؛ فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان،
وهو مثل من يتوقع النهب من الظَّلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في صحن
داره، وقدر على دفنها فلم يفعل، وقال: انتظر من فضل الله_تعالى_أن يسلط
غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب؛ حتى لا يتفرغ إلى داري، أو إذا انتهى إلى
داري مات على باب الدار؛ فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة ! وقد حكي في
الأسمار أن مثل ذلك وقع؛ فأنا أنتظر من فضل الله مثله.
فمنتظر هذا أمر ممكن، ولكنه في غاية الحماقة والجهل؛ إذ قد لا يمكن ولا يكون ([19]).