لا تقربوا الصلاةوأنتم سكارىأراد الله عز وجل أن يصلنا به وصل العباديةالتي تجعلنا نعلن والولاء لله في كل يوم ، خمس مرات ، وسبحانه يريدنا أن نُقبل عليهبجماع عقولنا وفكرنا وروحنا بحيث لا يغيب منا شيء .
هو سبحانه يقول (( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)) ولم يقل : لا تصلوا وأنتمسكارى ؟ أي لا تقاربوا الصلاة ولا تقوموا إليها واجتنبوها ، وفيه إشارة إلى تركالمسكرات ، فما معنى ((لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)) ؟معنى ذلك أنهم إذا كانوا لا يقربون الصلاة إذا ما شربوا الخمر ، فيكونتحريم المسكرات لم يأت به التشريع بعد ، فقد مر هذا الأمر على مراحل ، لأن الدينحينما جاء ليواجه أمة كانت على فترة من الرسل أي بعدت صلتها بالرسل ، فيجيء إلى أمرالعقائد فيتكلم فيها كلاماً حاسماً باتَّا لا مرحلية فيه ، فالإيمان بإله واحد وعدمالشرك بالله هذه أمور ليس فيها مراحل ، ولا هوادة فيها .
ولكن المسائل التيتتعلق بإلف العادة ، فقد جاءت الأوامر فيها مرحلية .
فلا نقسر ولا نكرهالعادة على غير معتادها بل نحاول أن نتدرج في المسائل الخاضعة للعادة ما دام هناكشيء يقود إلى التعود .
إن الله سبحانه وتعالى من رحمته بمن يشرع لهم جعل فيمسائل العادة والرتابة مرحليات ، فهذه مرحلة من المراحل : (( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى )) ، والصلاة هي : الأقوالوالأفعال المعرفة المبدوءة بالتكبير والمنتهية بالتسليم بشرائطها الخاصة ، هذه هيالصلاة ، اصطلاحياً في الإسلام وإن كانت الصلاة في المعنى اللغوي العام هو مطلقالدعاء .
و{ سًكارى} جمع ( سكران) وهو من شرب ما يستر عقله ، وأصل المسألة مأخوذة منالسَّكرْ ما سد به النهر ، فالماء حين ينساب يضعون سداً ، هذا السد يمنع تدفق الماء، وكذلك الخمر ساعة يشربها تمنع تدفق الفكر والعقل ، فأخذ من هذا المعنى ، (( لا تقربوا الصلاة الصلاة وأنتم سكارى)) المفهوم أن الصلاةتأخذهم خمسة أوقات للقاء الله ، والسكر والخُمار ، وهو ما يمكث من أثر المسْكِر فيالنفس ، ومادام لن يقرب الصلاة وهو سكران فيمتنع في الأوقات المتقاربة . إذن فقدحملهم على أن يخرقوا العادة بأوقات يطول فيها أمد الابتعاد عن السُكر .
وماداموا قد اعتادوا أن يتركوها طوال النهار وحتى العشاء ، فسيصلي الواحدمنهم ثم يشرب وينام .
إذن فقد مكث طوال النهار لم يشرب ، هذه مرحلة من المراحل ،وأوجد الحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة مرحليات تتقلبها النفس البشرية . فاول ماجاء ليتكلم عن الخمر قال :
سورة النحل 67وَمِنثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًاإِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَويلاحظ هنا أن ( السُكر) مقدم ، على الرزق الموصوف بالحسن ، ففيه سكروفيه رزق . كأنهم عندما كانوا يألون العنب أو البلح فهذا رزق ، ووصف الله الرزقبأنه حسن . ولكنهم كانوا أيضاً ياخذون العنب ويصنعون منه خمراً ، فقدم ربنا (السُكرَ) لأنهم يفعلون ذلك فيه ، ولكنه لم يصفه بالحسن ، بلقال : (( تتخذون منه سكراً)) لكن كلمة رزق وُصف بالحسن .
بالله عندما نسمع ((سكَراً ورزقاً حسناً)) ألا نفهم أن كونه سكراً يعني غير حسن ، لأن مقابل الحسن : قبيح . وكأنه قال : ومنثمرات النخل والأعناب تتخذون منه سكراً أي شراباً قبيحاً ورزقاً حسناً ، ولاهتمامكمأنتم بالسكر ، قدمه ، وبعد ذلك ماذا حدث ؟عندما يريد الحق سبحانه وتعالى أنيأتي بحكم تكون المقدمة له مثل النصيحة ، فالنصيحة ليست حكماً شرعياً ، والنصيحة أنيبين لك وأنت تختار ، يقول الحق : البقرة 219يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌكَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَاوَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُالآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَهو سبحانه شرح القضية فقط وأنتحر في أن تختار فقال : (( قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس)) ولكن الإثم أكبر من النفع ، فهل قال لنا ماذا نفعل ؟ لالأنهيريد أن يستأنس العقول لترجح من نفسها الحكم ، وأن يصل الإنسان إلى الحكم بنفسه ،فسبحانه قال : (( وإثمهما أكبر من نفعهما )) فمادامالإثم أكبر من النفع فما مرجحات البدائل ؟ مرجحات البدائل تظهر لك حين تقارن بينبديلين ثم تعرف أقل البديلين شراً وأكثر البديلين خيراً .
فحين يقول الحق : (( فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)) إذن فهذه نصيحة ، ومادامت نصيحة فالخير أن يتبعها الإنسان ويستأمن اللهعلى نصيحته . لكن لا حكم هنا ، فظل هناك ناس يشربون وناس لا يشربون ، وبعد ذلك حدثتقصة من جاء يصلي وقرأ سورة الكافرون ، ولأن عقله قد سد قال : قل ياأيها الكافرون أعبد ما تعبدون .... فوصلت المسألة ذروتهاوهنا جاء الحكم فنحن لا نتدخل معك سواء سكرت أم لا ، لكن سكرك لا يصح أن يؤدي بك أننكفر في الصلاة ، فلا تقرب الصلاة وأنت مخمور . هذا نهي ، وأمر ، وتكليف .
(( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)) ومادام لانقرب الصلاة ونحن سكارى فسنأخذ وقتاً نتمتع فيه ، إذن ففيه إلف بالترك ، وبعد ذلكحدثت الحكاية التي طلبوا فيها أن يفتي الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الخمر ،فقالوا للنبي : بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزل قوله الحق :
المائدة 90يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُوَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِفَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَإذن فقوله : (( ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم السكارى)) مرحلةمن مراحل التلطيف في تحريم الخمر ، فحرمها زمناً ، هذا الزمن هو الوقت الذي يلقىالإنسان فيه ربه ، إنه أوضح لك : اعملها بعيداً ، لكن عندما تأتي فعليك أن تأتيبجماع فكرك وجماع عقلك ، (( حتى تعلموا ما تقولون)) فكأن هذه أعطتنا حكماً : أن الذي يسكر لا يعرف ماذا يقول ، إنما في العبادة وفيالقرآن فلا يصح أن يصل إلى هذا الحد ، وعندما تصل إلى هذا الحد يتدخل ربنا فيقول : (( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون )) .
ثم جاء بحكم آخر . (( ولا جنباً إلا عابري سبيلحتى تغتسلوا)) ومعروف ما هي الجنابة : إنها الأثر الناتج من التقاء الرجلبالمرأة . وليس لأحد شأن بهذه المسألة مادامت تتم في ضوء شريعة الله وشأننا في ذلكأن ناتمر بأمر ربنا ونغتسل من الجنابة سواء فهمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نفهم .
(( ولا جنباً إلا عابري سبيل)) ، فلا تقربواالصلاة ، بالسكر أو بالجنابة ولم يقل : ((لا تصلوا)) . والصلاة مكانها المسجد ، فقول : (( لا تقربوا الصلاة وأنتمسكارى حتي تعلموا ما تقولون ولا جنباً )) ، أي لا تقربوا الصلاة ، والقربعرضة أن يكون ذهاباً للمسجد ، فكأنه يقول : لا تذهب إلا إذا كان المسجد لا طريقللماء إلا منه .
وربنا سبحانه وتعالى يقول : (( أو جاءأحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً)) ومن رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن لطف الحق بها أن التشريع جاءليقبل عليه الإنسان ، لأنه تشريع فلا تقل لي مثلاً : أنا أتوضأ لكي أنظف نفسيولكننا نقول لك : هل تتوضأ لتنظف نفسك وعندما تفقد الماء تأتي بتراب لتضعه على وجهك؟ فلا تقل لي النظافة أو كذا ، إنه استجابة الصلاة بالشيء الذي فرضه الله ، فقال لي : توضأ فإن لم تجد ماءً فتيمم ، أينقلني من الماء الذي ينظف إلى أن أمسح كَفَّيَّبالتراب ثم ألمس بهما وجهي ؟ نعم ؛ لأن المسألة أمر من الله فُهمت علته أم لم تُفهم؛ ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(( أعطيتخمساً لم يُعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجُعلت لي الأرضمسجداً طهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحللأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) رواه البخاري ومسلم والنسائي عن جابر .
(( فتيمموا صعيداً طيباً )) أي تكون واثقاً أنه ليس عليه نجاسة ، (( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم)) ، المسألة فيها (( جنب)) وفيها كذا وكذا ... (( تيمم)) ، إذن فكلمة (( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم)) ليس ذلك معناه أن التيمم خَلَف وبديل عن الوضوء فحسب ، ففي الوضوء كنت أتمضمض ،وكنت أستنشق ، وكنت أغسل الوجه ، وكنت أغسل اليدين ، وأمسح الرأس والأذنين ... مثلاً ، وأنا أتكلم عن الأركان والسنن .
وفي هذه الاية يوضح الحق : مادامتالمسألة بصعيد طيب وتراب فذلك يصح سواء أكانت للحدث الأصغر أم للجنابة ، إذن فيكفيأن تمسح بالوجه واليدين .
ولماذا قال الحق في ذلك : (( إن الله غفواً غفوراً )) ، لأنه غفر وستر علينا في المشقة فيضرورة البحث عن الماء ويسر ورخص لنا في التيمم .
والله أعلماللهم تقبل منا صالح الأعمالمن خواطر الإمام المرحوم / الشعراوي