منهج الإمام الأشعري في الجمع بين النقل والعقل، وحاجة ذلك العصر إلى هذا المنهج:
فجاء الإمام أبو الحسن الأشعري فرأى أن يسير في تأييد عقيدة أهل السنة على منهج أهل النظر. وطريقة المتكلمين.
وذلك لأمرين: الأول: لنبوغه حينما كان معتزليا وقبل تحوله إلى أهل السنة في علم الكلام، وبراعته في طرق الحجاج والنظر على يد شيخه أبي علي الجبائي الذي كان ريئس المعتزلة الذين هم فحول أهل الكلام والنظر، حتى كان شيخه كثيرا ما ينيبه عن نفسه في الحجاج والمناظرات، فهذا الوضع كان من أهم البواعث للأشعري بعدما تحول إلى عقيدة أهل السنة أن ينهج منهج أهل النظر.
والباعث الثاني: ما كان يلاحظه هو من الحاجة الملحة لأهل السنة خاصة، وللمسلمين عامة إلى هذا المنهج الوسط.
فإن المذهب الأشعري نشأ في وقت فشى فيه الاعتزال واستخدام العقل في أمور العقيدة، والمغالاة في ذلك، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان التشبيه والتجسيم وحشو الحديث على أشده، وكان الذين على هذا المذهب يدعون النسبة إلى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، وأحمد منهم براء، وإنما نقلت عنه كلمات لم يفهموها، فحملوها على غير ما أراده الإمام أحمد، كما قال تقي الدين السبكي في مقدمة "السيف الصقيل" وكان الأشعري ينظر إلى ما وصل إليه المعتزلة من تطرف ومغالاة حتى أصبح الإسلام عندهم قضايا فلسفية وبراهن منطقية، ولم يعد النص هوا المتبوع، بل أصبح تابعا للعقل، وكذلك نظر الأشعري إلى ما انتهى إليه الحنابلة والحشوية من المبالغة في الوقوف عند ظاهر النص، والتزام حرفيته، وبذلك أصبح الإسلام عندهم جامدا لا حياة فيه.
فهدى الله الإمام أبا الحسن الأشعري إلى الحق، فوقف وسطا بين العقل والنقل، سلك الأشعري في الاستدلال على العقائد مسلك النقل والعقل، فهو يثبت ما جاء به الكتاب والسنة من صفات الله وصفات رسله، واليوم الآخر والملائكة والحساب والعقاب والثواب، ويتجه إلى الأدلة العقلية والبراهن المنطقية، يستدل بها على صدق ما جاء به القرآن والسنة عقلا، بعد أن وجب التصديق بها كما هي نقلا، فهو لا يتخذ من العقل حاكما على النصوص ليؤولها، بل يتخذ العقل خادما للنصوص يؤيدها.
وقد استعان في ذلك بقضايا فلسفية ومسائل عقلية خاض فيها الفلاسفة والمتكلمون من قبله، فالأشعري لم يتطرف في التأويل العقلي كالمعتزلة، ولم يستهجن البحث الكلامي كالحنابلة، ولكنه وقف وسطا بين الجانبين.
فكان مذهبه إدراك النص في ضوء العقل، أو السير وراء العقل في حدود الشرع، لأن العقل إذا ترك وشأنه اتبع الهوى وضل، والذي يعصمه من الضلال هو سيره تحت ضوء الشرع.
وبهذا المنهج الوسط الجامع بين العقل والنقل الذي كان الحاجة الملحة لذلك العصر، لفت الإمام الأشعري إلى نفسه وإلى منهجه أنظار علماء عصره وحكمائهم ومثقفيهم، ونال إعجابهم، فحاز بذلك منزلة عظيمة عندهم، وصار له أنصار كثيرون، ولقي من الحكام تأييدا وحظوة، فتعقب خصومه من المعتزلة والحشوية وأهل الأهواء، وكتب الله تعالى له النصر والتأييد على أهل الأهواء، فكان بذلك إمام أهل السنة والجماعة.
يقول القاضي عياض عن الإمام الأشعري: «فلما كثر تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة، وأخذوا عنه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطريقة في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة، فسموا باسمه، وتلاهم أتباعهم وطلبتهم، فعرفوا بذلك، وإنما كانوا يعرفون قبل ذلك بالمُثْبِتَةِ، سِمَة عَرَّفَهم بها المعتزلة، إذ أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه، فبهذه السمة أولا كان يعرف أئمة الذب عن السنة من أهل الحديث، كالمحاسبي وابن كلاب وعبد العزيز بن عبد الملك المكي والكرابيسي، إلى أن جاء أبو الحسن، وأشهر نفسه، فنسب طلبته والمتفقهة عليه في علمه إلى نسبه، كما نسب أصحاب الشافعي إلى نسبه، وأصحاب مالك وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة إلى أسماء أئمتهم الذي درسوا كتبهم، وتفقهوا بطرقهم في الشريعة، وهم لم يحدثوا فيها ما ليس منها، فكذلك أبو الحسن، فأهل السنة من أهل المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى منهاجه يذهبون، وقد أثنى عليه غير واحد منهم، وأثنوا على مذهبه وطريقه».[1]
بهذا المنهج الجامع بين العقل والنقل قضى المذهب الأشعري على مذهب المعتزلة الذي سار أخيرا على عكس ما كان يدعو إليه أولا من حرية الرأي، وقام بتعذيب مخالفيه ومحاولة القضاء عليهم عن طريق استخدام السلطة الحاكمة، فصار بذلك مكروها عند العامة، ومبغوضا للخاصة، وبهذا المنهج الجامع الجاذب حل المذهب الأشعري محل المذهب المعتزلي في الحجاج على القضايا الإسلامية بالحجج العقلية والبراهين النظرية بعد أن قضى عليه، واندمج فيه المذهب الكُلاّبي.
وإليكم هذا النص من كلام الإمام عبد الكريم الشهرستاني لتأييد ما كتبناه.
قال تحت عنوان: الصفاتية:
«إعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام، والجود، والإنعام، والعزة، والعظمة. ولا يفرقون بين صفات الذات، وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقا واحدا. وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين، والوجه ولا يؤولون ذلك، إلا أنهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع، فنسميها صفات خبرية. فلما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون، سمي السلف صفاتية، والمعتزلة معطلة.
فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات. واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها، وما ورد به الخبر فافترقوا فرقتين:
فمنهم من أوَّله على وجه يحتمل اللفظ ذلك.
ومنهم من توقف في التأويل، وقال: عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يشبه شيئا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء منها، وقطعنا بذلك، إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} طه: [5]، ومثل قوله: {خلقت بيدي} ص: [75]، ومثل قوله: {وجاء ربك} الفجر [22] إلى غير ذلك. ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له، وليس كمثله شيء، وذلك قد أثبتناه يقينا.
ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف؛ فقالوا لا بد من إجرائها على ظاهرها، فوقعوا في التشبيه الصرف، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف. ولقد كان التشبيه صرفا خالصا في اليهود، لا في كلهم بل في القرائين منهم، إذ وجدوا في التوراة ألفاظا كثيرة تدل على ذلك.
ثم الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير. أما الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإلٓه تعالى وتقدس. وأما التقصير فتشبيه الإلٓه بواحد من الخلق. ولما ظهرت المعتزلة والمتكلمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير، ووقعت في الاعتزال، وتخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر، فوقعت في التشبيه.
وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل، ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم: مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهما، إذ قال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة،[2] والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ومثل أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وسفيان الثوري، وداود بن على الأصفهاني، ومن تابعه.
حتى انتهى الزمان إلى عبد الله بن سعيد الكُلاّبي وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام، وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية، وبراهن أصولية. وصنف بعضهم، ودَرَّس بعض، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح، فتخاصما. وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهبا لأهل السنة والجماعة، وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية».[3]
وقال ابن عساكر: كتب إلىَّ الشيخ أبو القاسم نصر بن نصر الواعظ يخبرني عن القاضي أبي المعالي بن عبد الملك، وذكر أبا الحسن الأشعري، فقال: نضر الله وجهه، وقدس روحه، فإنه نظر في كتب المعتزلة، والجهمية، والرافضة، وإنهم عطلوا، وأبطلوا، فقالوا: لا علم لله، ولا قدرة، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، ولا بقاء، ولا إرادة.
وقالت الحشوية والمجسمة والمكيفة المحددة: إن لله علما كالعلوم، وقدرة كالقُدَر، وسمعا كالأسماع، وبصرا كالأبصار، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: إن لله سبحانه وتعالى علما لا كالعلوم، وقدرة لا كالقُدَر، وسمعا لا كالأسماع، وبصرا لا كالأبصار.
وكذلك قال جهم بن صفوان: العبد لا يقدر على إحداث شيء ولا على كسب شيء.
وقالت المعتزلة: هو قادر على الإحداث والكسب معا، فسلك -رضي الله عنه- طريقة بينهما، فقال: العبد لا يقدر على الإحداث، ويقدر على الكسب، ونفى قدرة الإحداث، وأثبت قدرة الكسب.
وكذلك قالت الحشوية المشبهة: إن الله سبحانه وتعالى يُرَى مكيفا محدودا كسائر المرئيات؛ وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية: إنه سبحانه لا يُرَى بحال من الأحوال، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: يرى من غير حلول ولا حدود ولا تكييف، كما يرانا هو سبحانه وتعالى وهو غير محدود ولا مكيف، فكذلك نراه وهو غير محدود ولا مكيف.
وكذلك قالت النجارية: إن الباري سبحانه بكل مكان من غير حلول ولا جهة؛ وقالت الحشوية والمجسمة: إنه سبحانه حالّ في العرش، وإن العرش مكان له وهو جالس عليه، فسلك طريقة بينهما، فقال: كان ولا مكان، فخلق العرش والكرسي، ولم يحتج إلى مكان، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه.
وقالت المعتزلة: له يدٌ يدُ قدرة ونعمة، ووجهه وجه وجود؛ وقالت الحشوية: يده يد جارحة، ووجهه وجه صورة، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: يده يد صفة، ووجهه وجه صفة، كالسمع والبصر.
وكذلك قالت المعتزلة: النزول نزول بعض آياته وملائكته، والاستواء بمعنى الاستيلاء، وقالت المشبهة والحشوية: النزول نزول ذاته بحركة وانتقال من مكان إلى مكان، والاستواء جلوس على العرش وحلول فيه؛ فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: النزول صفة من صفاته، والاستواء صفة من صفاته، وفعل فعله في العرش يسمى الاستواء.
وكذلك قالت المعتزلة: كلام الله مخلوق مخترع مبتدع، وقالت الحشوية المجسمة: الحروف المقطعة، والأجسام التي يكتب عليها، والألوان التي يكتب بها، وما بين الدفتين، كلها قديمة أزلية؛ فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: القرآن كلام الله قديم غير مغير، ولا مخلوق، ولا حادث، ولا مبتدع، فأما الحروف المقطعة، والأجسام، والألوان، والأصوات، والمحدودات، وكل ما في العالم من المكيفات مخلوق مبتدع مخترع.
وكذلك قالت المعتزلة والجهمية والنجارية: الإيمان مخلوق على الإطلاق، وقالت الحشوية المجسمة: الإيمان قديم على الإطلاق؛ فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، وقال: الإيمان إيمانان: إيمان لله، فهو قديم، لقوله {المؤمن المهيمن}، وإيمان للخلق، فهو مخلوق، لأنه منهم يبدو، وهم مثابون على إخلاصه، معاقبون على شكه.
وكذلك قالت المرجئة: من أخلص لله سبحانه وتعالى مرة في إيمانه لا يكفر بارتداد ولا كفر، ولا يكتب عليه كبيرة قط؛ وقالت المعتزلة: إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعاته مائة سنة لا يخرج من النار قط؛ فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، وقال: المؤمن الموحد الفاسق هو في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عاقبه بفسقه ثم أدخله الجنة، فأما عقوبة متصلة مؤبدة فلا يجازى بها كبيرة منفصلة منقطعة.
وكذلك قالت الرافضة أن للرسول صلوات الله عليه وسلامه ولعلي عليه السلام شفاعة من غير أمر الله تعالى ولا إذنه، حتى لو شفعا في الكفار قبلت، وقالت المعتزلة لا شفاعة له بحال، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال بأن للرسول صلوات الله عليه وسلامه شفاعة مقبولة في المؤمنين المستحقين للعقوبة، يشفع لهم بأمر الله تعالى وإذنه، ولا يشفع إلا لمن ارتضى.
وكذلك قالت الخوارج بكفر عثمان وعلي رضي الله عنهما، ونص هو رضي الله عنه على موالاتهما، وتفضيل المقدم على المؤخر.
وكذلك قالت المعتزلة: إن أمير المؤمنين معاوية، وطلحة، والزبير، وأم المؤمنين عائشة، وكل من تبعهم رضي الله عنهم على الخطأ، ولو شهدوا كلهم بحبة واحدة لم تقبل شهادتهم، وقالت الرافضة: إن هؤلاء كلهم كفار ارتدوا بعد إسلامهم، وبعضهم لم يسلموا؛ وقالت الأموية: لا يجوز عليهم الخطأ بحال؛ فسلك رضي الله عنه طريقة بينهم، وقال: كل مجتهد مصيب، وكلهم على الحق، وإنهم لم يختلفوا في الأصول، وإنما اختلفوا في الفروع، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى شيء، فهو مصيب، وله الأجر والثواب على ذلك.
إلى غير ذلك من أصول يكثر تعدادها وتذكارها.
وهذه الطرق التي سلكها لم يسلكها شهوة وإرادة، ولم يحدثها بدعة واستحسانا، ولكنه أثبتها ببراهين عقلية مخبورة، وأدلة شرعية مسبورة، وأعلام هادية إلى الحق، وحجج داعية إلى الصواب والصدق: هي الطرق إلى الله سبحانه وتعالى، والسبيل إلى النجاة والفوز؛ من تمسك بها فاز ونجا، ومن حاد عنها ضل وغوى.[4]
[1] ترتيب المدارك: 5/25 الطبعة المغربية.
[2] قد روي هذا الكلام عن مالك بصيغ مختلفة، وهذه الصيغة غير صحيحة، والرواية الصحيحة عنه هي بصيغة: «والكيف عنه مرفوع»، وبصيغة: «والكيف غير معقول»، وقد روي بصيغة: «والكيف غير معقول» عن سفيان بن عيينة، وربيعة شيخ مالك. قاله الحافظ ابن حجر، وقال: أخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. فتح الباري: 12/406-407.
[3] الملل والنحل: 92-93
[4] تبيين كذب المفتري: 149-152