ذكر ما أجمع عليه السلف من الأصول التي نبهوا بالأدلة عليها وأخذوا في وقت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بها.
1- واعلموا -أرشدكم الله- أن مما أجمعوا -رحمة الله عليهم- على اعتقاده، مما دعاهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إليه، ونبههم بما ذكرناه على صحته، أن العالم بما فيه من أجسامه وأعراضه محدث، لم يكن ثم كان، وأن لجميعه محدثا واحدا اخترع أعيانه وأحدث جواهره وأعراضه...
2- وأجمعوا على أنه -عز وجل- غير مشبه لشيء من العالم، وقد نبه الله عز وجل على ذلك بقوله: {ليس كمثله شيء} الشورى [42] وبقوله عز وجل- {ولم يكن له كفوا أحد} الإخلاص: [5].
3- وأجمعوا على أنه تعالى لم يزل موجودا، حيا، قادرا، عالما، مريدا، متكلما، سميعا، بصيرا، على ما وصف به نفسه وتسمى به في كتابه وأخبرهم به رسوله، ودلت عليه أفعاله.
4- وأجمعوا على إثبات حياة لله -عز وجل- لم يزل بها حيا، وعلم لم يزل به عالما، وقدرة لم يزل بها قادرا، وكلام لم يزل به متكلما، وإرادة لم يزل بها مريدا، وسمع وبصر لم يزل به سميعا وبصيرا، وعلى أن شيئا من هذه الصفات لا يصح أن يكون محدثا.
5- وأجمعوا على أن صفته -عز وجل- لا تشبه صفات المحدثين، كما أن نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين.
6- وأجمعوا على أن أمره -عز وجل- وقوله غير محدث ولا مخلوق.
7- وأجمعوا على أنه -عز وجل- يسمع ويرى، وأن له تعالى يدين مبسوطتين، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه من أن يكون جوازا... وأن يديه تعالى غير نعمته.
8- وأجمعوا على أنه -عز وجل- يجيء يوم القيامة والملك صفا صفا لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن يشاء من المذنبين، ويعذب منهم من يشاء. كما قال. وليس مجيئه حركة ولا زوالا، وإنما يكون المجيء حركة وزوالا إذا كان الجائي جسما أو جوهرا، فإذا ثبت أنه عز وجل ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه نقلة أو حركة، ألا ترى أنهم لا يريدون بقولهم: جاءت زيدا الحمى أنها تنقلت إليه أو تحركت من مكان كانت فيه؛ إذ لم تكن جسما، ولا جوهرا وإنما مجيئها إليه وجودها به.
وأنه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كما روى عن النبي، وليس نزوله نقلة لأنه ليس بجسم ولا جوهر.
9- وأجمعوا على أنه -عز وجل- يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته لنعيمهم، وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم، وأن غضبه إرادته لعذابهم، وأنه لا يقوم لغضبه شيء.
وأنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه، وقد دل على ذلك بقوله: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} الملك: [16] وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} فاطر: [10] وقال: {الرحمن على العرش استوى} طه: [5] ولا يسمى استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر، لأنه -عز وجل- لم يزل مستوليا على كل شيء.
وأن له -عز وجل- كرسيا دون العرش. وقد دل سبحانه على ذلك بقوله: {وسع كرسيه السموات والأرض} البقرة: [255]
10- وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب، وترك التكييف له لازم.
11- وأجمعوا على أن المؤمنين يرون الله عز وجل يوم القيامة بأعين وجوههم.
12- وأجمعوا على أنه عز وجل غير محتاج إلى شيء مما خلق، وأنه تعالى يضل من يشاء، ويهدى من يشاء، ويعذب من يشاء، وينعم على من يشاء، ويعز من يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويغني من يشاء، وأنه لا يسأل في شيء من ذلك عما يفعل، ولا لأفعاله علل؛ لأنه مالك غير مملوك، ولا مأمور ولا منهي، وأنه يفعل ما يشاء.
13- وأجمعوا على أن القبيح من أفعال خلقه كلها ما نهاهم عنه وزجرهم عن فعله، وأن الحسن ما أمرهم به، أو ندبهم إلى فعله، أو أباحه لهم.
14- وأجمعوا على أن على جميع الخلق الرضا بأحكام الله التي أمرهم بها أن يرضوا بها، والتسليم في جميع ما أمرهم، والصبر على قضائه، والانتهاء إلى طاعته فيما دعاهم إلى فعله أو تركه.
15- وأجمعوا على أنه عادل في جميع أفعاله وأحكامه ساءنا في ذلك أم سرنا أو ضرنا.
16- وأجمعوا على أنه تعالى قدر جميع أفعال الخلق وآجالهم وأرزاقهم قبل خلقه لهم، وأثبت في اللوح المحفوظ جميع ما هو كائن منهم إلى يوم القيامة.
17- وأجمعوا على أنه تعالى قسم خلقه فرقتين: فرقة خلقهم للجنة وكتبهم بأسمائهم وصفاتهم، وفرقة خلقهم للسعير ذكرهم بأسمائهم.
18- وأجمعوا على أن الأمة لا يقدرون على الخروج مما سبق في علم الله فيهم وإرادته لهم، وعلى أن طاعته تعالى واجبة عليهم فيما أمرهم به، والكفر كان لسابق علمه فيهم وإرادته لهم أنه لا يطيعونه.
19- وأجمعوا على أنه خالق لجميع الحوادث وحده لا خالق لشيء منها سواه.
20- وأجمعوا على أن جنس استطاعة الإيمان غير جنس استطاعة الكفر.
21- وأجمعوا على أن الإنسان غير غني عن ربه عز وجل في سائر أوقاته، وعلى الرغبة إليه في المعونة على سائر ما أمر به.
22- وأجمعوا على أن الإنسان لا يستطيع أن يفعل ما علم الله عز وجل أنه لا يفعله.
23- وأجمعوا على أن الله عز وجل قد كلف الكفار الإيمان والتصديق بنبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإن كانوا غير عاملين بذلك، لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد أوضح لهم الدلالة، ولزمهم حكم الدعوة، وإنما وجب عليهم من إيجاب الله عز وجل له، وطريق معرفتهم بذلك العقول التي جعلت آلة تمييزهم.
24- وأجمعوا على أنهم يستحقون الذم بإعراضهم وتشاغلهم بما نهوا عنه عن التشاغل به.
25- وأجمعوا أيضا على أن الكافرين غير قادرين على العلم بما دعوا إليه مع تشاغلهم بالإعراض عنه، وإيثارهم الجهل عليه مع كونهم غير عاجزين عن ذلك ولا ممنوعين منه لصحة أبدانهم.
26- وأجمعوا على أن الإنسان لا يقدر بقدرة واحدة على مقدورين، كما أنه لا يعلم بعلم واحد، لا يكتسب شيئا من تصرفه إلا بقدرة تخصه في حال وجوده.
27- وأجمعوا على أنه لا يصح تكليف الإنسان الطاعة ونهيه عن المعصية إلا مع صحة بدنه وسلامة آلات فعله، وإن كان لكل فعل يكتسبه قوة تخصه غير القوة عليه وعلى تركه، وغير الفعل المقدور بها، وغير صحة بدنه، كما أنه لا يصح أن يكلف فعلا إلا مع صحة عقله وآلات تمييزه.
28- وأجمعوا على أن ما عليه جميع سائر الخلق من تصرفهم، قد قدره الله عز وجل قبل خلقه لهم، وأحصاه في اللوح المحفوظ لهم، وأحاط علمه به وبهم، وأخبر بما يكون منهم، وأن أحدا لا يقدر على تغيير شيء من ذلك، ولا الخروج عما قدره الله تعالى وسبق علمه به.
29- وأجمعوا على أنه تعالى يتفضل على بعض خلقه بالتوفيق والهدى وحبب إليهم الإيمان.
30- وأجمعوا على أن ما يقدر عليه من الألطاف التي لو فعلها لآمن جميع الخلق غير متناهية، وأن فعل ذلك غير واجب عليه بل هو تعالى متفضل بما يفعله منها، وأنه تعالى لم يتفضل على بعض خلقه بذلك.
31- وأجمعوا على أن الله تعالى كان قادرا على أن يخلق جميع الخلق في الجنة متفضلا عليهم بذلك، لأنه تعالى غير محتاج إلى عبادتهم، وأنه قادر أن يخلقهم كلهم في النار، ويكون بذلك عادلا عليهم لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} الأنبياء: [23]... لا معقب لحكمه.
32- وأجمعوا على أنه تعالى لا يجب عليه أن يساوي بين خلقه في النعم، وأن له أن يختص من يشاء منهم بما شاء من نعمة... وإنما اختلف الفريقان لاختلاف ما أراده الله عز وجل لهم.
33- وأجمعوا على أنه ليس لأحد من الخلق الاعتراض على الله تعالى في شيء من تدبيره، ولا إنكار لشيء من أفعاله، إذ كان مالكا لما يشاء منها غير مملوك، وأنه تعالى حكيم قبل أن يفعل سائر الأفعال، وأن جميع ما يفعله لا يخرجه عن الحكمة، وأن من يعترض عليه في أفعاله متبع رأي الشيطان في ذلك.
34- وأجمعوا على أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دعا جميع الخلق إلى معرفة الله، وإلى نبوته، ونهاهم عن الجهل بالله عز وجل وعن تكذيبه.
35- وأجمعوا على أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
36- وأجمعوا على أن المؤمن بالله تعالى وسائر ما دعاه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى الإيمان به لا يخرجه عنه شيء من المعاصي ولا يحبط إيمانه إلا الكفر، وأن العصاة من أهل القبلة مأمورون بسائر الشرائع، غير خارجين عن الإيمان بمعاصيهم
37- وأجمعوا على أنه لا يقطع على أحد من عصاة أهل القبلة في تلك الدار بالنار، ولا على أحد من أهل الطاعة بالجنة إلا من قطع عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بذلك.
38- وأجمعوا على أن للعباد حفظة يكتبون أعمالهم، وقد دل على ذلك بقوله: {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين}.
39- وأجمعوا على أن عذاب القبر حق، وأن الناس يسألون في قبورهم بعد أن يحيوا فيها، ويسألون فيثبت الله من أحب نبيه.
40- وأجمعوا على أن الصراط جسر ممدود على جهنم يجوز عليه العباد بقدر أعمالهم، وأنهم يتفاوتون في السرعة والإبطاء على قدر ذلك.
41- وأجمعوا على أن الله تعالى يخرج من النار من في قلبه شيء من الإيمان بعد الانتقام منه.
42- وأجمعوا على أن شفاعة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأهل الكبائر من أمته، وعلى أنه يخرج من النار قوما من أمته بعدما صاروا حمما، فيطرحون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في سهل السبيل.
وعلى أن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حوضا يوم القيامة ترده أمته، لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من بدل وغير بعده.
وعلى أن الإيمان بما جاء من خبر الإسراء بالنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى السموات واجب.
وكذلك ما روي من خبر الدجال، ونزول عيسى بن مريم، وقتله الدجال؛ وغير ذلك من سائر الآيات التي تواترت الرواية بكونها بين يدي الساعة من طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة، وغير ذلك مما نقله إلينا الثقات عن رسول الله، وعرفونا صحته.
43- وأجمعوا على التصديق بجميع ما جاء به رسول الله في كتاب الله، وما ثبت به النقل من سائر سنته، ووجوب العمل بمحكمه، والإقرار بمشكله ومتشابهه، ورد كل ما لم يحط به علما بتفسيره إلى الله، مع الإيمان بنصه، وأن ذلك لا يكون إلا فيما كلفوا الإيمان بجملته دون تفصيله.
44- وأجمعوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم، بأيديهم وبألسنتهم إن استطاعوا ذلك، وإلا فبقلوبهم، وأنه لا يجب ذلك عليهم بالسيف إلا في اللصوص والقطاع بعد مناشدتهم.
45- وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل من ولي شيئا من أمورهم عن رضى أو غلبة، واشتدت وطاقه من بر وفاجر، لا يلزم الخروج عليهم بالسيف جار أو عدل، وعلى أن يغزوا معهم العدو، ويحج معهم البيت، وتدفع إليهم الصدقات إذا طلبوها، ويصلي خلفهم الجمعة والأعياد، وأن لا يصلي خلف أحد من أهل البدع منهم من أجل أنهم قد فسقوا بالبدع، والإمامةُ موضع فضل، ولا يصح أن يأتم العدل بالفاسق، كما لا يجب أن يأتم القارئ بالأمي إلا أن يخاف منهم، فيصلي معهم، وتعاد الصلاة بعدهم.
46- وأجمعوا على أن خير القرون قرن الصحابة، ثم الذين يلونهم على ما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (خيركم قرني)، وعلى أن خير الصحابة أهل بدر، وخير أهل بدر العشرة، وخير العشرة الأئمة الأربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضوان الله عليهم، وأن إمامتهم كانت عن رضى من جماعتهم.
47- وأجمعوا على أن الخيار بعد العشرة في أهل بدر من المهاجرين والأنصار على قدر الهجرة والسابقة، وعلى أن كل من صحب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولو ساعة أو رآه ولو مرة مع إيمانه به وبما دعا إليه أفضل من التابعين بذلك.
48- وأجمعوا على الكف عن ذكر الصحابة عليهم الصلوات إلا بخير ما يذكرون به، وعلى أنهم أحق أن تنشر محاسنهم وتلتمس لأفعالهم أفضل المخارج، وأن يظن بهم أحسن الظن وأحسن المذاهب.
49- وأجمعوا على أن ما كان بينهم من الأمور الدينية لا يسقط حقوقهم، كما لا يسقط ما كان بين أولاد يعقوب النبي عليه السلام من حقوقهم، وعلى أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه، وعما اختلفوا فيه أو في تأويله لأن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم.
50- وأجمعوا على ذم سائر أهل البدع، والتبري منهم، وهم الروافض، والخوارج، والمرجئة، والقدرية، وترك الاختلاط بهم.
51- وأجمعوا على النصيحة للمسلمين والقول لجماعتهم وعلى التوادد في الله، والدعاء لأئمة المسلمين، والتبري ممن ذم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأهل بيته وأزواجه، وترك الاختلاط بهم، والتبري منهم.
فهذه الأصول التي مضى الأسلاف عليها، واتبعوا حكم الكتاب والسنة بها، واقتدى بهم الخلف الصالح في مناقبها.
نفعنا الله وإياكم أجره، والحمد لله وحده، وهو حسبي، ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.