من روائع تفسير القرطبي في قوله تعالى (فورب السماء والأرض إنه لحق)
قوله تعالى: "فورب السماء والأرض إنه لحق" أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله:
"مثل ما أنكم تنطقون" وخص النطق من بين سائر الحواس؛ لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي يرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدوى والطنين في الأذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به.
وقال بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره.
وقال الحسن: بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
(قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى: "فورب السماء والأرض إنه لحق".
وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أصمع،
قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم.
قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن؛
قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم؛
قال: فاتل علي منه شيئا؛ فقرأت "والذاريات ذروا" إلى قوله: "وفي السماء رزقكم"
فقال: يا أصمعي حسبك! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها،
وقال: أعني على توزيعها؛ ففرقناها على من أقبل وأدبر،
ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: "وفي السماء زرقكم وما توعدون" فمقت نفسي ولمتها،
ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت
فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي وأخذ بيدي
وقال: اتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت "والذاريات"
حتى وصلت إلى قوله تعالى: "وفي السماء رزقكم وما توعدون"
فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا،
وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم؛ يقول الله تبارك وتعالى: "فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون"
قال فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف!
ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه.
وقال يزيد بن مرثد: إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به؛ فشبع وروي من غير طعام ولا شراب.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت) أسنده الثعلبي.
وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا فأعناه عليه، فقال: (لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله).
وروي أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله،
فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رؤوسكم،
وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول:
لو كان في صخرة في البحر راسية
صما ململمة ملسا نواحيها
رزق لنفس براها الله لانفلقت
حتى تؤدي إليها كل ما فيها
أو كان بين طباق السبع مسلكها
لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى تنال الذي في اللوح خط لها
إن لم تنله وإلا سوف يأتيها
قلت: وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فسمع قوله تعالى:" وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" [هود: 6]
فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم
وقال: ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب؛ وقد ذكرناه في سورة "هود". وقال لقمان:
"يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة" [لقمان: 16] الآية. وقد مضى في "لقمان" وقد استوفينا هذا الباب في كتاب (قمع الحرص بالزهد والقناعة) والحمد لله.
وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شيء، وهو فراغ القلب مع الرب؛
رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه
منقووووووول