الطريق
إلى المحبة الإلهية عند رابعة:
وترى
رابعة العدوية أن الدخول على
المحبة الإلهية لا بد من اتباع ما يلي:
الورع
لقد
عرفت رابعة العدوية أن
الورع هو المدخل الأسنى في الدخول على حضرة علام الغيوب وفي ذلك يقول سهل بن يحيى: "لا
يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه هذه الأربع: أداء الفرائض بالسنن، وأكل
الحلال بالورع، واجتناب النهي عن الظاهر والباطن، والعبد على ذلك حتى الممات"
(القشيري:
1/299). وقد أورد ابن خلكان
حكاية عن ورعها وتقواها فقال: قالت رابعة
العدوية لأبيها: يا أبت، لست أجعلك في حل من حرام تطعمينه فقال لها: أرأيت إن لم أجد
إلا حراماً؟ قالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة عن النار"
(ابن خلكان
2/285). فالورع أن تطيب مطعمك
فلا تأكل إلا الحلال، وهكذا كان وصف
رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين إذ قال: "مثل المؤمن كالنحلة، إذا أكلت لا
تأكل إلا طيباً وإذا أخرجت لا تخرج إلا طيباً، إذا وقفت على عود نخر لم
تكسره." وقد روي عن الحسن بن يسار قوله: صلاح الدين الورع
وفساد الدين الطمع
(القشيري1/34).
الصدق
من السمات
المهمة في شخصية رابعة العدوية صدقها مع الله, ومع
الناس. فالصدق منجاة من كل الآثام, وهي مطلب
الأنبياء والصالحين. وفي ذلك
ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء، آية
84) وقوله صلى الله عليه
وسلم: لا يزال الرجل يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله
صديقاً، وهكذا فإنها قبلت الصدق مع الله ودونه إن هذا الأمر جعل الآخرين يخافونها
ويهابونها. فقد كانت تنصح دون خوف ولا وجل من أحد. دخل
على رابعة رباح القيسي وصالح ابن
عبد الجليل وكلاب ، فتذاكروا الدنيا فأقبلوا يذمونها فقالت رابعة: إنيّ لأرى
الدنيا بترابيعها في قلوبكم، قالوا: ومن أين توهّمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب
الأشياء من قلوبكم، فتكلمتم فيه. (ابن الجوزي4/28). وهكذا كان
الصدق في نظر رابعة العدوية كما يقول الغزالي، للصدق معانٍ ستة: صدق في القول،
وصدق في النية وصدق في العزم، وصدق في الوفاء، وصدق في العمل وصدق في تحقيق مقامات
الدين (عبد
القادر عيسى، 302ص).
الزهد في
الدنيا والإقبال على
الآخرة
إن من أهم
صفات أهل الله الصالحين، والصوفية المخلصين العزوف عن الدنيا
وزخارفها، والإقبال بالقلب على الله. وهذا ما عنته رابعة العدوية في ردها على من طلب
زواجها. أورد ابن خلكان حكاية عن رابعة العدوية قال فيها: "كان أبو سلمان الهاشمي له
بالبصرة كل يوم ثمانين ألف درهم فبعث علماء البصرة في امرأة يتزوجها، فأجمعوا على
رابعة العدوية، فكتب، إليها: أما بعد فإن ملكي من غلة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف
درهم، وليس يمضي إلا قليل حتى أتمها مائة ألف إن شاء الله، وأنا أخطبك نفسك،
فأجيبيني، فكتبت إليه: أما بعد فإنّ الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها
تورث الهمّ والحزن، فإذا أتاك كتابي فهي زادك وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك، ولا
تجعل وصيتك إلى غيرك وهم دهرك، واجعل الموت فطرك، فما يسرني أن الله خوّلني أضعاف ما
خوّلك، فيشغلني بك عنه طرفة عين" والسلام. (ابن خلكان، 2/286).
من هذه
الحكاية تفهم رابعة أن المال والجاه والسلطان لا يغيرُها كل ذلك، بل كانت ترى أن
الله تعالى قد أعطاها من المحبة والراحة الأبدية أضعاف عطايا مال أبي سليمان
الهاشمي. وهي بهذا رفضت أن يشغلها عن الله هذا التاجر
الثري وماله.
ولقي سفيان الثوري
رابعة – وكانت مزرية الحال فقال لها يا أم عمرو أرى حالاً رثة، فلو
أتيت جارك فلاناً لغير بعض ما أرى فقالت له: يا سفيان وما ترى من سوء حالي، الست على
الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر فيه، والأنس الذي لا وحشة
معه، والله إني لاستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسال من لا يملكها، فقام سفيان
وهو يقول: ما سمعت مثل هذا الكلام... (ابن خلكان، 2/286).
الخوف من
الله
كانت رابعة
تعيش دهرها بين عبادة وذكر، خوف ورجاء وهكذا كان فهم الصوفية
وكذا رابعة للخوف: فالخوف هو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل،
ولكن أعظم مقام الخوف، الخوف من الله تعالى، لأن من عرف الله خافه بالضرورة، وفي
ذلك يقول الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (سورة فاطر، آية 28). وأمر المؤمنين بالخوف
والخشية منه فقال تعالى: {وإياي فارهبون} (سورة البقرة، آية 40). وقد أورد
ابن الجوزي حكاية عن رابعة العدوية وخوفها من الله فقال: قال عبد
الله بن عيسى: دخلتُ على رابعة العدوية ببيتها فرأيت على وجها النور، وكانت
كثيرة البكاء، فقرأ رجلٌ عندها آية من القرآن فيها ذكر النار، فصاحت ثم سقطت، ودخلت
عليها وهي جالسة على قطعة بوري خلق فتكلم رجل عندها بشيء فجعلت أسمع وقع دموعها
على البوري مثل الوَكْف ثم اضطربت وصاحت، فقمنا وخرجنا (ابن الجوزي، 4/27). وكانت كثيرة
البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زماناُ، وكان
موضع سجودها كهيئة الحوض الصغير من دموعها، وكأن النار ما خلقت إلا
لأجلها.
وحكايات خوفها من الله كثيرة فقد ذكر سجف من منظور: دخلت
على رابعة ساجدة، فلما
أحست بمكاني رفعت رأسها، فإذا موضع سجودها كهيئة المستنقع من دموعها، فسلمت فأقبلت
علي فقالت، يا بني ألك حاجة، فقلت: جئت لأسلم عليك، قال فبكت، وقالت: سترك اللهم
سترك، ودعت بدعوات، ثم قامت إلى الصلاة وانصرفت. (ابن الجوزي4/291).
الحب
الإلهي
والمحبة
الإلهية هي أعلى مقامات الصوفية والصالحين والعارفين، وهكذا كانت
تقرر رابعة العدوية فهي ترى أن الحب الإلهي هو إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين
ومنتهى نهاية الفضل العظيم.
وذكر أبو
القاسم القشيري في الرسالة عن رابعة
أنها كانت تقول في مناجاتها: "إلهي تحرق بالنار قلبا يحبك، فهتف بها مرّة هاتف:
ما كنا نفعل هذا فلا تظني بنا ظنّ السوء". (ابن خلكان، 2/285).
وروى ابن
خلكان عن رابعة العدوية قال: وكانت إذا جن عليها الليل قامت إلى سطح لها ثم
نادت:
"إلهي هدأت
الأصوات، وسكنت الحركات، وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك أيها
المحبوب،
فاجعل
خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار." (ابن خلكان: 2/286).
ومذهب
رابعة العدوية في الحب يسير على الحب الخالص لله دون حاجة من المحبوب. وفي ذلك ترى أن المحبة هي التي تعمى وتعم، تعمى عما سوى
المحبوب، فلا يشهد سواه مطلوباً. وفي ذلك
تراه تنشد في محبة الخالق:
أحبك
حُبين حب الهوى *** وحبا لأنّك أهل
لذاكا
فأما الذي هو حُب
الهوى *** فشغلي بذكرك عَمّن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ
له *** فلست أرى الكون حتى أراكا
فما الحمدُ في ذا ولا
ذاك لي *** ولكن لك الحمد في ذا
وذاكا
(الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف ص110).
ورابعة
العدوية كانت أول من دعا إلى حب الله لذاته لا رغبة في الجنة، ولا خوفاً من النار،
ومن شعرها:
إني جعلتك في الفؤاد
محدّثي *** وأبحث جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس
مؤانسٌ *** وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وقالت أيضاً:
كلهم
يعبدون من خوف نار *** ويرون النجاة حظاً جزيلاً
أو أن يسكنوا الجنان فيحظوا *** بقصورٍ
ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان
والنار حظ *** أنا لا أبتغي بحبي بديلا
(الغزالي، إحياء علوم الدين 4/219) ومحمد عبد المنعم خفاجي (ص
201-202).
وبعد فهذه
رابعة العدوية، وهذا هو الأدب الصوفي، أدب الحب الإلهي أدب حافل بالروح
والفكر المتجدد، وأدب عميق يحكي التجربة الحية. فالتصوف
جزء هام من تراثنا، وتغلبنا على
مواطن الضعف والانكسار، ونقلها إلى روح القوة والانتصار.