استمعت الى صديقى الحزين وهو يقول:ـ
وصل المهندس الزراعى إلى قريتنا
ليتولى الإشراف على الجمعية الزراعية فيها.. كان يرتدى قميصا رخيصا
وبنطلونا متواضعا ، وكان سيادته أكثر تواضعا من مظهره .. كان مرتبه أقل من
عشرين جنيها ولكنه كان يتحكم فى أصول مالية وعينية ومادية تصل الى مليون
جنيه ويشاركه فى الإشراف عليها كاتب الجمعية وأعضاء الجمعية الزراعية
المنتخبون، وهم من كبار القرية ورءوس العائلات فيها . وكان كاتب الجمعية من
أبناء القرية الذين فاتهم قطار التعليم فعمل قبانيا يقوم بوزن المحاصيل
والعمل لدى إدارة التسويق التعاونى ، ثم إستقر أخيرا فى العمل كاتبا فى
الجمعية الزراعية بمرتب يصل الىعشرة جنيهات ولكن بإمكانيات للسرقة والنهب
تزيد على مئات الجنيهات شهريا .. وكان سيادته لايتكاسل ولايتهاون فى رفع
مستوى دخله الشهرى ، يعاونه فى ذلك إثنان من أعضاء الجمعية ، وهما
لايتخلفان عن حضور السهرات الممتعة إياها فى نظير سكوتهما عن سرقات السيد
كاتب الجمعية، أما الأعضاء الثلاثة الآخرون فقد كانت لهم تسهيلات اخرى
عينية يستفيدون منها فى دعم أرضهم بالتقاوى والبذور والمبيدات وسائر
الخدمات الأخرى وتقريبا بدون مقابل ..
وكان هذا هو الحال حينما وصل
السيد المهندس الزراعى مشرفا يتحلى بإبتسامته الودود وبهندامه المتواضع
وجيوبه الخالية .. وفى الواقع فقد قوبل بإحتفال وتكريم يناسب مكانته ، وكان
السيد كاتب الجمعية والسادة الأعضاء هم الذين رحبوا به ، وكل منهم يطمع فى
ان يضع السيد المهندس فى جيبه.
ووجد السيد المهندس الزراعى كل
التسهيلات متاحة أمامه؛ كان معه فى جيبه خمسة جنيهات إقترضها لينفق منها
ويدبر حاله الى أن يأتى له أول مرتب من وظيفته الجديدة ، وكان العجيب أن
تلك الجنيهات ظلت فى جيبه كما هى إلى أول الشهرالتالى، مع أنه وجد السكن
الملائم والطعام الساخن والطازج ثلاث مرات يوميا، والسهرات الممتعة والرفاق
الذين تسابقوا فى مسامرته .
كان السيد المهندس الزراعى قد تخرج فى إحدى
كليات الزراعة لا يفهم كثيرا عن الزراعة إلا من خلال الكتب والمحاضرات
النظرية ، ثم دخل الجيش وظل فيه سنوات إستطالت بعد النكسة، الى أن خرج من
الجيش وقد نسى كل ماتعلمه فى الكلية ، ثم فوجىء بتعيينه فى قريتنا ، فترك
مدينته ذات الأضواء وجاء لأول مرة يكتشف الريف المصرى ، فوجد فى انتظاره
كاتب الجمعية ورفاقه فتعلم على أيديهم أصول الشغل ، وكان لهم تلميذا نجيبا .
عرف من السيد كاتب الجمعية كيف يختلس المبيدات وكيف يخلطها بالماء وكيف
يزور الحسابات وكيف تزداد مديونيات الفلاحين وكيف تتضاعف حقوق الجمعية
الزراعية نحوهم ، ثم كيف يتم التعامل مع الحاج لطفى أكبر تجار المنطقة
والوسيط الذى يقوم عن الفلاحين بالتوريد والذى يشترى منه الفلاحون كل
ماينبغى أن يصل اليهم عن طريق الجمعية بالدعم ، ولكنهم يشترونه منه بالسعر
المضاعف ، وحتى الإعتمادات المالية للمقاومة ووسائلها اليدوية والكيماوية
تعلم كيفية الإختلاس فيها ، وكيفية تسوية الحسابات الرسمية لتكون ناصعة
البياض لا يشوبها الشك ، وعليها توقيعات الفلاحين وبصماتهم وأختامهم .ومن
أصدقائه الجدد أعضاء الجمعية عرف خبايا البلد والصراعات التى تحتدم بين
عائلاتها ، وأستفاد بها ولعب عليها. ثم عرف ماهو أكثر، عرف أن فلانا له
علاقة بفلانة ، وأن زوجة فلان سيئة السمعة ، وأن ... وأن ...ولم يمض عليه
بضعة شهور حتى كان يدخل البيوت فى النهار ثم أتيح له بعدها أن يدخلها ليلا
وأن يصل الى حيث لا يصل اليه إلا رب البيت . والحقيبة المتواضعة التى قدم
أول مرة بها احتفظ فيها ببنطلونه وقميصه ووضعها فى دولاب فاخر فى حجرة
النوم الخاصة به فى قصره الفاخر الذى إشتراه على قطعة من أراضيه فى أجمل
موقع بالقرية .والكاتب الذى تعلم منه أصول المهنة إستقر فى زنزانة بائسة
بأحد السجون بعد أن ثبتت عليه تهمةالإختلاس بعد بلاغ رسمى قدمه ضده المهندس
الزراعى ..وحل محله موظف جديد قادم من بلد بعيد يحمل معه دبلوم تجارة وليس
له من الأمر شىء. وأصبح المهندس هو فرعون القرية والحاكم بأمره فيها.