السلفية بين الهائمين بها والناقدين لها (١ - ٤)
بقلم جمال البنا ٢٩/ ١٢/ ٢٠١٠
أصبح موضوع السلفية يستأثر بالصدارة فى الموضوعات الإسلامية التى تشغل الأذهان . لنبدأ أولاً بتحديد معنى ومضمون الكلمة حتى لا تضللنا مفاهيم أخرى ، فنحن نعنى بالسلفية: أولاً: الإيمان بالمذاهب الأربعة المقررة والانتماء إلى أحدها. ثانيًا: قبول تفسير القرآن و«علوم القرآن» كما وضعها الطبرى وابن كثير.. إلخ ، بما فيها من ناسخ ومنسوخ وأسباب النزول. ثالثاً: قبول تصنيف الأحاديث كما وضعها الإمام أحمد بن حنبل وأئمة الحديث. رابعًا: تقدير السلف الصالح من الصحابة حتى تابعى التابعين، واستلهامهم والترضى عليهم وعدم مسهم بسوء.
بهذا المعيار نقول إن أنصار السلفية والهائمين بها هم الأغلبية العظمى للمسلمين وإن أغلبية الهيئات القائمة هى هيئات سلفية سواء كانت فى مصر أو السعودية أو سوريا أو غيرها من بلاد المسلمين. بل أكثر من ذلك يكاد يكون من المقرر أن أى مفكر يشذ عن ذلك أو يرفض أصلاً من الأصول الأربعة- دع عنك كلها- فإنه يُعد خارجًا عن شرع الإسلام، ويقف ما بين المبتدع فى الملة والخارج منها. وهذا هو السر فى أن فقيهًا مثل الشيخ القرضاوى يُعد من أكبر الفقهاء مرونة وانفتاحًا، لا يستطيع أن يخالف حديثاً يعدونه من الصحاح، لأن السلف جميعًا يؤمنون بما قاله الشافعى «إذا صح الحديث فهو مذهبى».
كما أن هذا هو السر فى أننا لا نجد مفكرًا من المفكرين المعترف بهم يعالج موضوعًا مثل «إعادة النظر فى تصنيف الأحاديث» أو «استبعاد ما يزعمون أنه من علوم القرآن مثل الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول»، لأنهم يرون أن العلم بها هو الذى يؤهل كاتبًا لأن يكتب عن هذا الموضوع ، وكانوا يقولون «جهلت الناسخ والمنسوخ.. هلكت وأهلكت»، بل إن الأزهر لا يزال متلكأ فى تنقية كتب الأحاديث التراثية، رغم رفع أكثر من قضية تطالبه بذلك ولا تزال منظورة أمام القضاء. وما دمنا قد قلنا إن الأغلبية العظمى للفقهاء المسـلمين والهيئات الإسلامية سـلفية فلا داعى للحصر، وإنما يمكن القول إن الأزهر، والإخوان المسلمين، والشيخ القرضاوى، واتحاد علماء المسلمين.. إلخ، كلهم داخل فى إطار السلفية مع ملاحظات درجات متفاوتة بين المرونة أو التشدد، ولكنها فى النهاية الملتزمة لأصول السلف.
والسلفية وإن كانت فى أصولها واحدة، إلا أن فهم هذه الأصول يمكن أن يأخذ طابع التشدد والتضييق، كما هو فى الفكر الوهابى، كما يمكن أن يتوسع أو يمرَّن شيئاً كما هو فى الإخوان المسلمين والشيخ القرضاوى، ولكنه، كائناً ما كانت المرونة، لا يمكن أن يخالف «حديثاً صحيحًا». ويمكن فى هذا المجال أن نضرب مثلاً للسلفية المجددة التى بشر بها المفكر الإسلامى الدكتور سليم العوا، والذى نشرت عنها مجلة «العربى» مقالاً فى (٩/٨/٢٠٠٩م) بقلم الأستاذ ياسر غنيم، تحت عنوان «السلفية المجددة طريقك إلى الحداثة» وجاء بها: السلفية.. كما يعرفها الدكتور سليم العوا فى كلمتين هى: أن تتبع طريقة السلف لا أن تقلد عملهم، أى أنه وفق هذا التعريف فإن كل من يتقيد بمذهب موروث عن شيخ ما، وإن كان هذا الشيخ من أعلام السلفية ، خاصة إن كان من عصر غير الذى نعيشه، لا يكون سلفيًا، بل يكون مقلدًا، وكل من يأخذ الدين من أصوله على طريقة السلف الصالح فهو سلفى وإن خالفهم فى بعض أقوالهم وأعمالهم، أو ما ذهبوا إليه من فهم للنصوص أو رأى فى الفتوى.
السلفية.. منهج وليست مذهبًا بعينه، لذلك قد يكون شيخك من أعلام السلفية وأئمتها المجددين، لكنك حين تحمل نفسك أو غيرك على مذهبه ومدرسته بحذافيرها فلست سلفيًا، ولكنك منسوب إلى شيخك وليس للسلف، وأنت حين تحذو حذو أحد أو طائفة من أهل الإسلام حذو القذة بالقذة تجعل من حذوك حذوه على منزلة الوحى الإلهى ورسالة النبى المعصوم وهذا يخرجك من السلفية. السلفية.. هى العمل بمنهج السلف الصالح وطريقتهم النقية السوية فى فهم الدين وإقامته، وإن خالفتهم فى كثير من عملهم وآرائهم» أ.هـ.
ولسنا نرى فى السلفية المجددة تجديدًا جذريًا، فهى كما ذكر المقال «أن تتبع طريقة السلف لا أن تقلد عملهم»، وكذلك السلفية هى العمل بمنهج السلف الصالح وطريقتهم النقية السوية فى فهم الدين ، وكذلك «السلفية منهج وليست مذهبًا بعينه ، وإن كل من يأخذ الدين من أصوله على طريقة السلف الصالح فهو سلفى وإن خالفهم فى بعض أقوالهم». إننا عندما حددنا السلفية قلنا إنها الأصول الأربعة وهى فى إجمالها منهج وكل من يتبع منهجها لا يُعد مجددًا، وغاية ما يمكن أن يصل إليه هو المرونة أو التشدد وهو ما أشرنا إليه أن «فهم» هذا المنهج قد يتفاوت، ولكنه فى جميع الحالات يتبع الأصول التى تمثل منهج السلفية . فلا تجديد فى المنهج السلفى، وإنما العمل من خلاله. والتجديد الحقيقى هو فى «مجاوزة السلفية» وما وضعته من أصول إلى أصول أخرى، وهذا ما لم يجرؤ عليه أحد، إلا «دعوة الإحياء الإسلامى» التى تـُحـارب من جميع جبهات السلفية. ذلك لأن السلفية هى من العمق والتمكن، بحيث اعتبرت أنها وحدها هى «أصول الدين» وليست «فهمًا» ويحق لها وحدها أن تضع أصول الدين أو أنها وحدها وصلت إلى ما لا يمكن أن يصل إليه غيرها.
وهذا حجر على العقل البشرى. بالإضافة إلى السلفية المجددة التى دعا إليها الأستاذ الدكتور سليم العوا، فهناك هيئة سلفية أخرى لها طرافة خاصة لأن مؤسسها رجل ولد فى بانجوك من أب تايلندى وأم مصرية واسمه رضا صمدى وقضى سنواته الأولى فى ماليزيا حيث كان والده يعمل فى السفارة التايلندية فى كوالالمبور، ولما نقل إلى السعودية بدأ رضا دراسته فى جدة ثم انتقل إلى مصر حيث أتم الدراسة الثانوية والجامعة فى الأزهر، وتخرج فى كلية الشريعة عام ١٩٩٢م، وأتم الماجستير فى جامعة القرويين فى المغرب.
وخلال إقامته فى مصر تعرف على شيوخ السلفية فى القاهرة والإسكندرية مثل الشيخ محمد حسين يعقوب والشيخ أبوإسحاق الحوينى والشيخ محمد بن إسماعيل المقدم والشيخ ياسر برهامى.. إلخ، وعمل معهم كما اعتقل وأفرج عنه سنة ١٩٩٩م، وطرد من مصر وهو ممنوع من دخولها. ركز العمل فى تايلند حيث تسمح حرية الفكر بحرية الدعوة، وحيث توجد أقلية تايلندية مسلمة وأطلق عليها الحركة السلفية من أجل الإصلاح (حفص)، وتحاول أن تمثل صوت الضمير الحى للأمة الإسلامية، وتمثيل الشخصية الحضارية لأمتنا، وأخيرًا تمثيل نداء الشرع المطهر لهذا الجيل.
ومع أن الحركة مجالها الأساسى تايلند، إلا أنه كان لها حضور فى القاهرة، خاصة فى مظاهرة مسجد الفتح بميدان رمسيس فى أكتوبر سنة ٢٠١٠م، وكانت لافتاتهم هى اللافتة الوحيدة التى نجت من التفتيش وأثار إعلانها انزعاج المسؤولين عن المظاهرة. وبدأت الحركة العمل فى تايلند فى أغسطس سنة ٢٠٠٥م، ولكن اضطرت للاحتجاب حينا، ثم أعلن عن نشاطها فى سبتمبر سنة ٢٠١٠م، حيث تنعم بالحرية وتقوم بعقد الندوات والمحاضرات والمخيمات الصيفية والمؤتمرات، ولها عدد من المواقع وصحيفة باسم «تايلند نيوز دار السلام»، وأنشأت صندوقاً تكافليًا يعنى بتقـديم القروض. ولكن باستثناء لمسة تجديد حضارية بحكم قيامها فى مجتمع مفتوح، فتظل السلفية هى السلفية، حتى وإن كان ثمة تحوطات من شيوخ السلفية عليها.
kll[b]