بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير القرطبي [ جزء 1 - صفحة 239 ]
اختلف العلماء من هذا الباب أيما افضل الملائكة أو بنو آدم على قولين : فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل . احتج من فضل الملائكة بأنهم { عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وقوله : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } وقوله : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } وفي البخاري :يقول الله عز وجل :[ من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ] وهذا نص .
واحتج من فضل بني آدم بقوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } بالهمز من برأ الله الخلق وقوله عليه السلام :
[ وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم ] الحديث أخرجه أبو داود وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة ولا يباهي إلا بالأفضل والله أعلم وقال بعض العلماء : لا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة ولا القطع بأن الملائكة خير منهم لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة وليس ها هنا شيء من ذلك
مجموع الفتاوى [ جزء 10 - صفحة 300 ]
ومن هنا غلط من غلط فى تفضيل الملائكة على الانبياء والصالحين فإنهم اعتبروا الملائكة كمال مع بداية الصالحين ونقصهم فغلطوا ولو اعتبروا حال الانب والصالحين بعد دخول الجنان ورضي الرحمن وزوال كل ما فيه نقص وملام وحصول كل ما فيه رحمة وسلام حتى استقر بهم القرار والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار فاذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من المخلوقين والا فهل يجوز لعاقل ان يعتبر حال احدهم قبل الكمال فى مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب
ولو اعتبر ذلك لاعتبر احدهم وهو نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حين نفخت فيه الروح ثم هو وليد ثم رضيع ثم فطيم الى احوال اخر فعلم ان الواحد فى هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التى يستحق بها كمال المدح والتفضيل وتفضيله بها على كل صنف وجيل وانما فضله باعتبار المآل عند حصول الكمال
وما يظنه بعض الناس انه من ولد على الاسلام فلم يكفر قط افضل ممن كان كافرا فأسلم ليس بصواب بل الإعتبار بالعاقبة وايهما كان اتقى لله فى عاقبته كان افضل فانه من المعلوم ان السابقين الاولين من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا بالله ورسوله بعد كفرهم هم افضل ممن ولد على الاسلام من اولادهم وغير اولادهم بل من عرف الشر وذاقه ثم عرف الخير وذاقه
بدائع الفوائد ابن القيم [ جزء 1 - صفحة 70 ]
وأما المقدمة الثانية وهي كون الملائكة خيرا وأشرف من الإنس فهي المسألة المشهورة وهي تفضيل الملائكة أو البشر والجمهور على تفضيل البشر والذين فضلوا الملائكة هم المعتزلة والفلاسفة وطائفة ممن عداهم بل الذي ينبغي أن يقال في التقديم هنا أنه تقديم بالزمان
صيد الخاطر ابن الجوزي [ جزء 1 - صفحة 72 ]
ما أزال اتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء و الأولياء فإن كان التفضيل بالصورة فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة
و إن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها فالصورة ليست الآدمي إنما هي قالب ثم استحسن منها ما يستقبح في العبادة مثل خلوف فم الصائم و دم الشهداء و النوم في الصلاة فبقيت صورة معمورة و صار الحكم للمعنى
ألهم مرتبة يحبهم أو فضيلة يباهى بهم و كيف دار الأمر فقد سجدوا لنا
و هو صريح في تفضيلنا عليهم فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة يوم { لا علم لنا } { يا آدم أنبئهم }
و إن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس و علينا أثقال أعباء الجسم
بالله لولا احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها و يرفق في السير بها لطرق أرض منى قبل العشر
واعجبا أتفضل الملائكة بكثرة التعبد ! فما ثم صعاد
أو يتعجب من الماء إذا جرى أو من منحدر يسرع ؟ إنما العجب من مصاعد يشق الطريق و يغالب العقبات
بلى قد يتصور منهم الخلاف و دعوى الإلهية لقدرتهم على دك الصخور و شق الأرض لذلك توعدوا : { و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه
فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية و ضعف يقيننا بالناهي و غلبة شهوتنا مع الغفلة يحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم
تالله لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به لم يقدر على التماسك
يصبح أحدنا و خطاب الشرع يقول له : الكسب لعائلتك و احذر في كسبك و قد تمكن منه ما ليس من فعله كحب الأهل و علوق الولد بنياط القلب و احتياج بدنه إلى ما لا بد منه
فتارة يقال للخليل عليه السلام : [ اذبح ولدك بيدك و اقطع ثمرة فؤادك بكفك ثم قم إلى المنجنيق لترمي في النار ]
و تارة يقال لموسى عليه السلام : [ صم شهرا ليلا و نهارا ]
ثم يقال للغضبان : اكظم و للبصير اغضض و لذي المقول اصمت و لمستلذ النوم تهجد و لمن مات حبيبه اصبر و لمن أصيب في بدنه أشكر و للواقف في الجهاد بين اثنين لا يحل أن تفر
ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات فينزع الروح عن البدن فإذا نزل فاثبت
و اعلم أنك ممزق في القبر فلا تتسخط لأنه مما يجري به القدر
و إن وقع بك مرض فلا تشك إلى الخلق
فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء ؟ و هل ثم إلا عبادة ساذجة ليس فيها مقاومة طبع و لا رد هوى ؟
و هل هي إلا عبادة صورية بين ركوع و سجود و تسبيح ؟ فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا ؟ ثم أكثرهم في خدمتنا بين كتبة علينا و دافعين عنا و مسخرين لإرسال الريح و المطر و أكبر وظائفهم الاستغفار لنا
فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة ؟
و إذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روى عن هاروت و ماروت فخرجوا أقبح من بهرج
و لا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير لأنهم شديد و الإشفاق و الخوف لعلمهم بعظمة الخالق لكن طمأنينة من لم يخطئ تقوى نفسه و انزعاج الغائص في الزلل يرقي روحه إلى التراقي
فاعرفوا إخواني شرف أقداركم و صونوا جواهركم عن تدنيسها بلوم الذنوب فأنتم معرض الفضل على الملائكة فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ..
البداية والنهاية ابن كثير [ جزء 1 - صفحة 54 ]
وقد اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على أقوال فأكثر ما توجد هذه المسئلة في كتب المتكلمين والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم وأقدم كلام رأيته في هذه المسئلة ما ذكره الحافظ بن عساكر في تاريخه في ترجمة أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلسا لعمر بن عبدالعزيز وعنده جماعة فقال عمر ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم واستدل بقوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ووافقه على ذلك أمية بن عمرو بن سعيد فقال عراك بن مالك ما أحد أكرم على الله من ملائكته هم خدمة داريه ورسله إلى أنبيائه واستدل بقوله تعالى ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين فقال عمر بن عبدالعزيز لمحمد بن كعب القرظي ما تقول أنت يا أبا حمزة فقال قد أكرم الله آدم فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وجعل من ذريته الأنبياء والرسل ومن يزوره الملائكة فوافق عمر بن عبدالعزيز في الحكم واستدل بغير دليله وأضعف دلالة ما صرح به من الآية وهو قوله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات مضمونة أنها ليست بخاصة بالبشر فإن الله قد وصف الملائكة بالإيمان في قوله ويؤمنون به وكذلك الجان وانا لما سمعنا الهدي آمنا به وانا منا المسلمون قلت وأحسن ما يستدل به في هذه المسئلة ما رواه عثمان بن سعيد الدارمي عن عبدالله بن عمرو مرفوعا وهو أصح قال لما خلق الله الجنة قالت الملائكة يا ربنا اجعل لنا هذه نأكل منها ونشرب فإنك خلقت الدنيا لبني آدم فقال الله لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان
النافع الكبير [ جزء 1 - صفحة 104 ]
فدل ما ذكره في الجامع ( وهو آخر التصنيفين ) أن مؤمني البشر أفضل من الملائكة وهو مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة..
قال تعالى:{وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } (31)
31 - قوله : { وعلم آدم الأسماء كلها } سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض وقيل : لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد وأبو البشر فلما خلقه الله تعالى علمه أسماء الأشياء وذلك أن الملائكة قالوا : لما قال الله تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالعلم وفيه دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلا كما ذهب إليه أهل السنة والجماعة ..
فتح القدير [ جزء 3 - صفحة 350 ]
وقد شغل كثير من أهل العلم بما لم تكن إليه حاجة ولا تتعلق به فائدة وهو مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء أو الأنبياء على الملائكة ومن جملة ما تمسك به مفضلو الأنبياء على الملائكة هذه الآية ولا دلالة لها على المطلوب لما عرفت من إجمال الكثير وعدم تبيينه والتعصب في هذه المسألة هو الذي حمل بعض الأشاعرة على تفسير الكثير هنا بالجميع حتى يتم له التفضيل على الملائكة وتمسك بعض المعتزلة بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء ولا دلالة بها على ذلك فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير ولو سلمنا ذلك فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلا عليه فيحتمل أن يكون مساويا للإنسان ويحتمل أن يكون أفضل منه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال والتأكيد بقوله : { تفضيلا } يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه
تفسير البغوي [ جزء 1 - صفحة 108 ]
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } وظاهر الآية أنه فضلهم على كثير ممن خلقهم لا على الكل
وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة
وقال الكلبي : فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم
وفي تفضيل الملائكة على البشر اختلاف فقال قوم : فضلوا على جميع الخلق وعلى الملائكة كلهم قد يوضع الأكثر موضع الكل كما قال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } إلى قوله تعالى : { وأكثرهم كاذبون } ( الشعراء - 221 / 222 ) أي : كلهم
وفي الحديث عن جابر يرفعه قال : [ لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة : يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له : كن فكان ]
والأولى أن يقال : عوام المؤمنين أفضل من عوام الملائكة وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } ( البينة - 7 )
وروي عن أبي هريرة أنه قال : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده
روح المعاني [ جزء 6 - صفحة 40 إلى41]
ولما اقتضى الانصاف تسليم إقتضاء الآية لتفضيل الملائكة وكان القول بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة والشيعة التزم حمل التفضيل فى الآية على غير محل الخلاف وذلك تفضيل الملائكة فى القوة وشد البطش وسعة التمكن والاقتدار
وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الرد على النصارى فى اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الاكمه والابرص وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة فناسب ذلك أن يقال : هذا الذى صدرت على يديه هذه الخوارق لاسيستنكف عن عبادة الله تعالى بل من هو أكثر خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام وقد بلغ من قوته وإقدار الله تعالى له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار ولاخلاف فى أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر وإنما الخلاف فى التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات فى دار الجزاء وليس فى الآية عليه دليل وقد يقال : لما كان أكثر مالبس على النصارى فى ألوهية عيسى عليه السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لايستنكف من عبادة الله تعالى ولاالملائكة المجودون من غير أب ولا أم فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه السلام ويشهد أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام فنظر الغريب بالأغرب وشبه العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من آدم عليهما الصلاة السلام وآدم عليه السلام من غير أب ولا أم ولذلك قال سبحانه : خلقه من تراب ثم قال كن فيكون ومدار هذا البحث على النكتة التى أشير اليها فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأى طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة الآية
وبالجملة المسألة سمعية وتفصيل الأدلة والمذاهب فيها حشو الكتب الكلامية والقطع منوط بالنص الذى لايحتمل تأويلا ووجوده عسر..
وقد ذكر الآمدى فى أبكار الأفكار بعد بسط الكلام ونقض وإبرام إن هذه المسألة ظنية لاحظ للقطع فيها نفيا وإثباتا ومدارها على الأدلة السمعية دون الأدلة العقلية وقال أفضل المعاصرين صالح أفندى الموصلى تغمده الله برحمته فى تعليقاته على البيضاوى : الأولى عندى التوقف فى هذه المسألة بالنسبة إلى غير نبينا صلى الله عليه وسلم إذ لاقطع يدل على الحكم فيها وليس معرفة ذلك ماكلفنا به والباب ذو خطر لاينبغى المجازفة فيه فالوقف أسلم واله تعالى أعلم
روح المعاني [ جزء 15 - صفحة 119 ]
هذا ثم إن مسئلة التفضيل مختلف فيها بين أهل السنة فمنهم من ذهب إلى تفضيل الملائكة وهو مذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط ومنهم من فصل فقال : إن الرسل من البشر أفضل مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عموم الملائكة على عموم البشر وهذا ما عليه أصحاب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة وكثير من الشافعية والأشعرية ومنهم من عمم ..
شرح العقيدة الطحاوية [ جزء 1 - صفحة 297 ]
وحاصل الكلام : أن هذه المسألة من فضول المسائل ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول وتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه في الجواب عنها كما تقدم والله أعلم بالصواب
فتح الباري - ابن حجر [ جزء 13 -من صفحة 386 إلى388]
المعروف عن جمهور أهل السنة ان صالحي بني آدم أفضل من سائر الأجناس والذين ذهبوا إلى تفضيل الملائكة الفلاسفة ثم المعتزلة وقليل من أهل السنة من أهل التصوف وبعض أهل الظاهر فمنهم من فاضل بين الجنسين فقالوا حقيقة الملك أفضل من حقيقة الإنسان لأنها نورانية وخيرة ولطيفة مع سعة العلم والقوة وصفاء الجوهر وهذا لا يستلزم تفضيل كل فرد على كل فرد لجواز أن يكون في بعض الأناسي ما في ذلك وزيادة ومنهم من خص الخلاف بصالحي البشر والملائكة ومنهم من خصه بالأنبياء ثم منهم من فضل الملائكة على غير الأنبياء ومنهم من فضلهم على الأنبياء أيضا الا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن أدلة تفضيل النبي على الملك أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم على سبيل التكريم له حتى قال إبليس أرأيتك هذا الذي كرمت علي ومنها قوله تعالى لما خلقت بيدي لما فيه من الإشارة إلى العناية به ولم يثبت ذلك للملائكة ومنها قوله تعالى ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ومنها قوله تعالى وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض
فدخل في عمومه الملائكة والمسخر له أفضل من المسخر ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة وطاعة البشر غالبا مع المجاهدة للنفس لما طبعت عليه من الشهوة والحرص والهوى والغضب فكانت عبادتهم أشق وأيضا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم وطاعة البشر بالنص تارة وبالاجتهاد تارة والاستنباط تارة فكانت أشق ولأن الملائكة سلمت من وسوسة الشياطين والقاء الشبه والإغواء الجائزة على البشر ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت والبشر لا يعرفون ذلك الا بالاعلام فلا يسلم منهم من إدخال الشبهة من جهة تدبير الكواكب وحركة الأفلاك الا الثابت على دينه ولا يتم ذلك الا بمشقة شديدة ومجاهدات كثيرة واما أدلة الآخرين فقد قيل ان حديث الباب أقوى ما استدل به لذلك للتصريح بقوله فيه في ملأ خير منهم والمراد بهم الملائكة حتى قال بعض الغلاة في ذلك وكم من ذاكر لله في ملأ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم الله في ملأ خير منهم وأجاب بعض أهل السنة بأن الخبر المذكور ليس نصا ولا صريحا في المراد بل يطرقه احتمال ان يكون المراد بالملأ الذين هم خير من الملأ الذاكر الأنبياء والشهداء فانهم أحياء عند ربهم فلم ينحصر ذلك في الملائكة وأجاب آخر وهو أقوى من الأول بأن الخيرية انما حصلت بالذاكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خيرا من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع وهذا الجواب ظهر لي وظننت انه مبتكر ثم رأيته في كلام القاضي كمال الدين بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى فقال ان الله قابل ذكر العبد في نفسه بذكره له في نفسه وقابل ذكر العبد في الملأ بذكره له في الملأ فانما صار الذكر في الملأ الثاني خيرا من الذكر في الأول لأن الله هو الذاكر فيهم والملأ الذين يذكرون والله فيهم أفضل من الملأ الذين يذكرون وليس الله فيهم ومن أدلة المعتزلة تقديم الملائكة في الذكر في قوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وتعقب بأن مجرد التقديم في الذكر لا يستلزم التفضيل لأنه لم ينحصر فيه بل له أسباب أخرى كالتقديم بالزمان في مثل قوله ومنك ومن نوح وإبراهيم فقدم نوحا على إبراهيم لتقدم زمان نوح مع أن إبراهيم أفضل ومنها قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون وبالغ الزمخشري فادعى ان دلالتها لهذا المطلوب قطعية بالنسبة لعلم المعاني فقال في قوله تعالى ولا الملائكة المقربون أي ولا من هو أعلى قدرا من المسيح وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل واسرافيل قال ولا يقتضي علم المعاني غير هذا من حيث أن الكلام انما سيق للرد على النصارى لغلوهم في المسيح فقيل لهم لن يترفع المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع درجة منه انتهى ملخصا وأجيب بأن الترقي لا يستلزم التفضيل المتنازع فيه وانما هو بحسب المقام وذلك ان كلا من الملائكة والمسيح عبد من دون الله فرد عليهم بأن المسيح الذي تشاهدونه لم يتكبر عن عبادة الله وكذلك من غاب عنكم من الملائكة لا يتكبر والنفوس لما غاب عنها أهيب ممن تشاهده ولأن الصفات التي عبدوا المسيح لأجلها من الزهد في الدنيا والاطلاع على المغيبات واحياء الموتى بإذن الله موجودة في الملائكة فان كانت توجب عبادته فهي موجبة لعبادتهم بطريق الأولى وهم مع ذلك لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى ولا يلزم من هذا الترقي ثبوت الأفضلية المتنازع فيها وقال البيضاوي احتج بهذا العطف من زعم ان الملائكة أفضل من الأنبياء وقال هي مساقة للرد على النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية وذلك يقتضي ان يكون المعطوف عليه أعلى درجة منه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه وجوابه أن الآية سيقت للرد على عبدة المسيح والملائكة فاريد بالعطف المبالغة باعتبار الكثرة دون التفضيل كقول القائل أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس وعلى تقدير إرادة التفضيل فغايته تفضيل المقربين ممن حول العرش بل من هو أعلى رتبة منهم على المسيح وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وقال الطيبي لا تتم لهم الدلالة الا ان سلم أن الآية سيقت للرد على النصارى فقط فيصح لن يترفع المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع منه والذي يدعي ذلك يحتاج إلى اثبات ان النصارى تعتقد تفضيل الملائكة على المسيح وهم لا يعتقدون ذلك بل يعتقدون فيه الإلهية فلا يتم استدلال من استدل به قال وسياقه الآية من أسلوب التتميم والمبالغة لا للترقي وذلك انه قدم قوله انما الله اله واحد إلى قوله وكيلا فقرر الوحدانية والمالكية والقدرة التامة ثم اتبعه بعدم الاستنكاف فالتقدير لا يستحق من اتصف بذلك ان يستكبر عليه الذي تتخذونه أيها النصارى الها لاعتقادكم فيه الكمال ولا الملائكة الذين اتخذها غيركم الهة لاعتقادهم فيهم الكمال قلت وقد ذكر ذلك البغوي ملخصا ولفظه لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام عيسى بل ردا على الذين يدعون ان الملائكة آلهة فرد عليهم كما رد على النصارى الذين يدعون التثليث ومنها قوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم اني ملك فنفى ان يكون ملكا فدل على انهم أفضل وتعقب بأنه انما نفى ذلك لكونهم طلبوا منه الخزائن وعلم الغيب وان يكون بصفة الملك من ترك الأكل والشرب والجماع وهو من نمط انكارهم ان يرسل الله بشرا مثلهم فنفى عنه أنه ملك ولا يستلزم ذلك التفضيل ومنها انه سبحانه لما وصف جبريل ومحمدا قال في جبريل انه لقول رسول كريم وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم وما صاحبكم بمجنون وبين الوصفين بون بعيد وتعقب بأن ذلك انما سيق للرد على من زعم ان الذي يأتيه شيطان فكان وصف جبريل بذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع بمثل ما وصف به جبريل هنا وأعظم منه وقد أفرط الزمخشري في سوء الأدب هنا وقال كلاما يستلزم تنقيص المقام المحمدي وبالغ الأئمة في الرد عليه في ذلك وهو من زلاته الشنيعة قوله وان تقرب الي شبرا في رواية المستملي والسرخسي بشبر بزيادة موحدة في أوله وسيأتي شرحه في اواخر كتاب التوحيد في باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه
{لن ينستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون}
باعتبار الكثرة دون التفضيل كقول القائل أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس وعلى تقدير إرادة التفضيل فغايته تفضيل المقربين ممن حول العرش بل من هو أعلى رتبة منهم على المسيح وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وقال الطيبي لا تتم لهم الدلالة الا ان سلم أن الآية سيقت للرد على النصارى فقط فيصح لن يترفع المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع منه والذي يدعي ذلك يحتاج إلى اثبات ان النصارى تعتقد تفضيل الملائكة على المسيح وهم لا يعتقدون ذلك بل يعتقدون فيه الإلهية فلا يتم استدلال من استدل به قال وسياقه الآية من أسلوب التتميم والمبالغة لا للترقي وذلك انه قدم قوله انما الله اله واحد إلى قوله وكيلا فقرر الوحدانية والمالكية والقدرة التامة ثم اتبعه بعدم الاستنكاف فالتقدير لا يستحق من اتصف بذلك ان يستكبر عليه الذي تتخذونه أيها النصارى الها لاعتقادكم فيه الكمال ولا الملائكة الذين اتخذها غيركم الهة لاعتقادهم فيهم الكمال قلت وقد ذكر ذلك البغوي ملخصا ولفظه لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام عيسى بل ردا على الذين يدعون ان الملائكة آلهة فرد عليهم كما رد على النصارى الذين يدعون التثليث ومنها قوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم اني ملك فنفى ان يكون ملكا فدل على انهم أفضل وتعقب بأنه انما نفى ذلك لكونهم طلبوا منه الخزائن وعلم الغيب وان يكون بصفة الملك من ترك الأكل والشرب والجماع وهو من نمط انكارهم ان يرسل الله بشرا مثلهم فنفى عنه أنه ملك ولا يستلزم ذلك التفضيل ومنها انه سبحانه لما وصف جبريل ومحمدا قال في جبريل انه لقول رسول كريم وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم وما صاحبكم بمجنون وبين الوصفين بون بعيد وتعقب بأن ذلك انما سيق للرد على من زعم ان الذي يأتيه شيطان فكان وصف جبريل بذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع بمثل ما وصف به جبريل هنا وأعظم منه وقد أفرط الزمخشري في سوء الأدب هنا وقال كلاما يستلزم تنقيص المقام المحمدي وبالغ الأئمة في الرد عليه في ذلك وهو من زلاته الشنيعة قوله وان تقرب الي شبرا في رواية المستملي والسرخسي بشبر بزيادة موحدة في أوله ..
منقول