الحمد لله له العزة والجبروت , وله الملك والملكوت تعالى الله في علاه, أعز المسلمين باجتماع كلمتهم, وتوحيد وجهتهم, وتقوية رابطتهم, فكانوا خير أمة أخرجت للناس , أشهد أن لا اله الا الله , أعز المسلمين بجمعهم على توحيده واتفاقهم على تمجيده امامهم الذي يرجعون اليه واحد وهو القرآن الكريم , وقبلتهم التي يتجهون اليها في صلاتهم واحدة , وهي بيت الله الحرام ورسولهم واحد, وهو محمد عليه الصلاة والسلام , وهدفهم واحد, وهو اعلاء كلمة الله الملك العلام ,وأشهد ان سيدنا محمدا عبده ورسوله دعا الى الألفة والاتحاد وحذر من الفرقة والاختلاف , اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آ له وصحبه الذي ألف الله بين قلوبهم بكلمة الاسلام , فاتفقت كلمتهم, وتوحدت قيادتهم وانتصروا على عدوهم وأصبحوا ظاهرين فرضى الله عنهم أجمعين.
أما بعد: فيقول الله سبحانه في كتابه الكريم :(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا)
عباد الله المؤمنين: هذا أمر من الله سبحانه, يطلب الينا فيه أن نعتصم بحبله, وأن نتوحد حول دعوته, وكأنه علم الله سبق بأننا قد نتوانى عن الاستجابة لهذه الدعوة الكريمة, فكان نسيج الآية بطريقة تزيد معناها تأكيدا، وتضيف الى وحدتنا قوة. فالله سبحانه أراد لنا أن نكون وحدة متماسكة ، ووضع لهذه الوحدة أساسين ربانين لا تصلح الا بهما :
أولهما : أن تكون وحدتنا حول كتاب الله (واعتصموا بحبل الله) فأول الأمور هو تحديد الهدف وتوحيده , وذلك يضمن لنا الأساس المتين للوحدة , فليس من الممكن أن تجتمع قلوب الناس على هواء وليس من المطلوب أن يجتمعوا على باطل وضلال , بل ينبغي أن يكون اجتماعهم على الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , واذا توافر للوحدة المؤمنة الدستور الذي تلتقي عنده القلوب , وتنتفى الأهواء فقد سلم بناؤها ووضح منهاجها, واطمأن المؤمنون الى التسلح بها (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)
والثاني: أن تقوم الوحدة على أساس التئام جميع أعضاء المجتمع المسلم, بحيث لا يتخلف عنها فرد واحد, ولا يشذ صوت مهما يكن, وذلك المعنى هو ما حرصت عليه الآية على بيانه في قوله تعالى:(واعتصموا بحبل الله جميعا”) وقد كان مما يؤدي المعنى في جملته قوله مثلا”:(واعتصموا بحبل الله) لكنه أكد شمول هذا الاعتصام بقوله(جميعا)وتلك هي الصورة التي أرادها سبحانه لوحدة هذه الأمة , وحدة شاملة, تضم كل فرد لا فضل فيها لأحد الا بالتقوى, ولا ميزة لأحد أن يزيد على الآخرين في البذل والتضحية ، وايثار ما عند الله على ما عند الناس, فالأمة كلها متوحدة الصف بأمر الله وارادته مجتمعة على هدف واحد هو الله الذي تؤمن به
وتتقيه ، وصدق الله العظيم (ان هذه أمتكم أمة واحدة, وأنا ربكم فاعبدون) فقد جمعت الآية تعبيرا صريحا آخر عن وحدة الهدف, ووحدة الصف ، في منطلق الدعوة المحمدية.
عباد الله المؤمنين: ليس هذا فحسب هو كل ما دعا به الاسلام الى الوحدة فلقد أكثر القرآن من تصوير الوحدة في مواضع مختلفة فالله سبحانه يحب وحدة الصف في مواجهة الخطر :(ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)وهذه ظروف الحرب , كما أنه حبب الينا أن نصرف جهودنا متوحدة معا في سبيل الخير :(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) وهذه ظروف السلم , والله سبحانه يبغض الينا أن نختلف ، لأن الاختلاف أول الفرقة وباب الفشل والضياع, والفاشل الضائع لا وزن له في هذه الدنيا ولا مكان له في الآخرة (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله اخوانا) بل انه ليجدر بنا أن نسير على نهج المتقدمين أو أن نقتدي بهم لأنه أعد لهم أشد العقاب عنده جزاء على تفرقهم:(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجا ء تهم البينات، أولئك لهم عذاب عظيم) فاذا مضينا في طريق الفرقة وأضعنا هدف الأمة وتقطعنا فرقا وأحزابا، وتمزقنا رؤساء وأذنابا فان أول اجراء فرضه الله علينا هو براءة الرسول صلى الله عليه وسلم منا ، وانفصاله عنا , وتخليه عن جماعتنا, لأن الأمة التي دعا اليها وأرادها تحمل الأمانة لا تعرف الفرقة , وانما هي أمة واحدة ، ربها واحد، وكتابها واحد، وصفها واحد، استمعوا الى قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم ( ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ، إنما أمرهم الى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) وليس أشد من هذا الجزاء ولا أعنف من ذلك الترهيب وهو نذير بين يدي الأمة ، يدعوها دائما أن توحد صفوفها ، وأن تتناسى أحقادها ، ودواعي اختلافها وفرقتها ، لأن ذلك هو درع التقدم وحصن الأمان .
عباد الله المؤمنين : لقد عاشت هذه الأمة فترة الوحدة على عهد محمد صلى الله عليه وسلم , حين ربى الجيل الأول من الصحابة تربية التوحيد الخالص المنزه عن شرك العقيدة وشبهات النفاق فكان منهم أولئك الفاتحون الأبطال الذين سارا النصر في ركابهم, وهزموا أعظم قادة الحرب من أبناء فارس والروم لم يدخلوا آنذاك كلية يتعلمون فيها فنون القتال , ولكنهم تلقوا علم القتال والانتصار على يد المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم , فكان أول درس لهم أن يقفوا في صفوف موحدة متساويين كالبنيان يشد بعضه بعضا ,ليؤدوا لله فريضة الصلاة خمس مرات في اليوم واللية في جماعة منتظمة لا يتخلف عنها أحد وظلت هذه الروح سائدة بين المسلمين فانساقوا في أقطار الأرض يعلون كلمة الله ويرفعون لواء دعوته , حتى بلغوا بفتوحاتهم وهدايتهم أقصى ما كان معروفا في ذلك الوقت من بلاد الله الواسعة .
فلما تفرقت كلمة الأجيال , وتمزقت وحدتهم , عاشوا تجربة أخرى ولكنها مريرة قاسية , كانوا في الأندلس قد عاشوا ثمانية قرون وعادوا للدنيا حضارة شامخة , ولكنهم لم يرعوها حق رعايتها وتنازعوا على الامارة والسلطان واستعان الأخ على أخيه بعدوهما كليهما , فتسلل أعداء الله الى صفوف المسلمين المتفرقين فمزقوها, وطرد المسلمون من الأندلس بعد أن أتقن الأعداء فيهم قتلا وصلبا وحرقا وانتهاكا” للأعراض والمقدسات على صورة لم يجدر بها مثيل في تاريخ البشر فالتجربتان ماثلتان في وجداننا تحركان فينا كل همة وتدفعا كل طموح إلى استعادة المجد الغابر وتحقيق الوحدة الربانية على ما أمر الله
عباد الله المؤمنين: قد يتصور بعض الناس أنه من الممكن تحقيق هذه الوحدة بعيدا” عن الدين أو أنه من الممكن تحقيق النصر على الأعداء بنوع من الاتحاد بعيدا عن الدين وأؤكد لكم أن ذلك لن يكون ورائه إلا الشر والهزيمة, فقد أراد الله لهذه الأمة شرف الإسلام وجعله صميم حياتها وأساس وجودها وربط بين مجدها ومجده كما وصل وجودها بوجوده , فالأمة جسد روحه الدين وبناء أساسه الإسلام قولا وعملا، شرعة ودولة ، عبادة وسلوكا” , لابد أن نعود إلى الدين الذي دعانا إلى الوحدة النقية الصافية لنربي أبنائنا وبناتنا على هداه , ونكبح شهواتنا بقوا نينه وننظم عاداتنا وتقاليدنا بآياته وبنيانه ونهذب سلوكنا بأوامره ونواهيه فيا أمة القرآن و يا أتباع محمد عليه الصلاة والسلام تناسوا خلافا” واتحدوا لنيل غايتكم ووحدوا صفوفكم وكونوا يدا” واحدة على أعداء دينكم وبلادكم , يحفظ الله مفاخركم وأمجادكم ويعلي شأنكم ويصون أوطانكم وينصركم على أعدائكم ويدخلكم الجنة عرضها لكم .
عن أبي شريح الخزامي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ قالوا :بلى قال: إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا.
الخطبة الثانية
الحمد لله جمع المؤمنين على كلمة التوحيد وأشهد أن لا إله إلا الله أمر بتوحيده فلبى نداءه المؤمنون السابقون , فدانت لهم الدنيا وخضع لقوتهم كل جبار عنيد , فصلوات الله وسلامه عليه وعلى أله وصحبه والتابعين .
عباد الله المؤمنين : المسلمون أمة واحدة , وإن تباعدت ديارهم وتباينت ألوانهم واختلفت ألسنتهم , يجمعهم القرآن ويوحد أهدافهم الإسلام , ربهم واحد , ودينهم واحد, ونبيهم واحد, وقبلتهم واحدة, هدفهم إعلاء كلمة الله , وإعزاز دينه شعارهم الأخوة الصادقة والمودة الخالصة أخوة الإيمان ورابطة الإسلام وأنعم بها رابطة خالية من الشوائب مبرأة من المعايب دستورها الحكيم قول النبي الكريم :(المؤمن للمؤمن كالبنيان ن يشد بعضه بعضا) وقوله ( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد , إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ) ولقد عني الإسلام بالألفة والتعاون , لأنها سبيل السعادة ومظهر القوة , ووسيلة الحياة الكريمة , نلمس ذلك في العبادات فقد قامت على روح الألفة والتعاون ففي الصلاة يتعارف المسلمون ويتحابون وأمام ربهم يتساوون , فيقف الجميع بين يدي الله كالبنيان المرصوص الكبير بإزاء الصغير والغني بجانب الفقير، الكل خاضع لربه ماثل بين يديه وما الزكاة إلا مظهر من مظاهر العطف والتعاون , وعامل من عوامل الإخاء والتضامن إذ تمكن الصلة بين الغني والفقير ويسكن بها ثائر الفقير ويذهب بها خوف الغني ويعيش الناس في أمن ورخاء دون عداوة أو بغض , وصوم رمضان لتربية النفوس على أكمل ما يراد لها الخير والرحمة والعطف والمودة والكرم والإيثار . وفي الحج كل مظاهر الوحدة والإخاء وحيث يجتمع الناس من جميع بقاع الأرض في صعيد واحد على تباين لغاتهم وتفاوت طبقاتهم يرجون رحمة الله ويخشون عذابه وبهذا استطاع الرسول الكريم أن يطارد عدوه وأن يجليه عن المدينة ولم يستطع العدو الوصول إلى صفوف المسلمين بشائعة أو بأراجيف مغرضة فتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ومكن لهم في الأرض وجعلهم الوارثين .