معاشر المؤمنين:
هو
خيرٌ كلُّه، وكلُّه خير، ولا يأتي إلاَّ بخير، هو خُلق من أخْلاق
الملائكة، وسمة من سمات أنبياء الله المخلَصين، خُلق من أسمى الصِّفات
الإنسانيَّة وألطفِها، وأنْبلِ الأخلاق الإسلاميَّة وأشرفِها، حسبُك إن
كنتَ ذامًّا أحدًا، أن تَسْلُب منه هذا الخلق، خُلق داستْه وسائلُ الإعلام،
واجْتثَّتْه من النفوس اجتثاثًا؛ إنَّه خلق الحياء.
إذا
رأيتَ الرَّجل يَخْتنِق وجهُه، وتعلو وجنتيه الحمرةُ، فيتحرَّج عن فعل ما
لا ينبغي له فعلُه - فاعلم أنَّه يَحمل بين جنبيْه شمعةَ الإيمان، وحياة
الضَّمير، ونقاوة المعْدن، وسلامةَ الفطرة.
الحياء - عبادَ الله - تاج الأخلاق، وعنوان العفاف، ورمْز الوقار، يزيد الرُّجولةَ كمالاً، ويكسو المروءة جمالاً.
وإذا
رُزِق العبد حياء لازمتْه السُّمعة الطَّيِّبة، والذِّكرُ الحسن، فنُشرتْ
مَحاسنه، ونُسيت مساوئه، وقديمًا قيل: من كساه الحياء ثوبه، لم يَرَ الناسُ
عَيْبه.
هذا الخلق توارثَتْه النَّاس من أنبيائهم، فـ((إنَّ ممَّا أدرك النَّاس من كلام النبوَّة الأولى: إذا لَم تستح فاصنعْ ما شئت)).
وتناقلتِ الخليقة من كتب الحكمة الأولى: إنَّ من الحياء وقارًا، وإنَّ من الحياء سكينة.
وعرفت العرب في جاهليَّتها هذا الخلق، فكانوا ذوي مُروءة واستحياء، فهذا عنترة بن شداد، يغضُّ طرفه عن جارته حياء، ويقول مفاخرًا:
وَأَغُضُّ طَرْفِي إِنْ بَدَتْ لِي جَارَتِي حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا
وهذا
أبو سفيان قبْل إسلامه يسأله هرقل ملك الروم عن النَّبي - صلَّى الله عليه
وسلَّم - فأجابه بما علم من حال النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال:
"فوالله لولا الحياءُ من أن يأثروا عليَّ كذبًا، لكذبت عليه".
ثمَّ
جاء الإسلام، فأمر بالحياء وحثَّ عليه، وحضَّ الناس على لزومه والتخلُّق
به، جاء في الحديث الصحيح: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:
((ما كان الفحش في شيء إلاَّ شانه، وما كان الحياء في شيء إلاَّ زانه))؛
أخرجه الترمذي وغيره.
ومرَّ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - برجُل يعظ أخاه في الحياء، فقال: ((دعْه فإنَّ الحياء من الإيمان)).
ومدح نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - موسى - عليْه السَّلام - بأنه كان رجلاً حييًّا ستِّيرًا.
وفي
محكم التَّنزيل، قصَّ علينا ربُّنا خبر تلك المرأة الصَّالحة مع نبي الله
موسى - عليه السلام - التي مشت إليْه بخطوات، لا إغواء فيها ولا إغراء،
وحادثتْه بكلمات معدودات، لا خضوع فيها ولا تميُّع.
قال
تعالى: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ
إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص:
25].
أمَّا قدوتنا وحبيبُنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -
فقد تسنَّم صُوَرَ الحياء في أعلى قاماتها، فكان - عليه الصَّلاة والسَّلام
- أشدَّ حياءً من العذْراء في خِدْرها، كان إذا كرِه شيئًا عُرِف ذلك في
وجهه، بل بلغ من حيائه واستحيائه أنَّه كان يتحرَّج أن يُشعر زوَّارَه
والمستأنسين بمجلسه بأنَّه قد طال جلوسهم عنده وحديثهم معه، فأنزل الله -
سبحانه -: ﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ
لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ﴾
[الأحزاب: 53].
هذا الخلق النبوي والحياء المحمَّدي انعكس
أثره على صحابته - رضي الله عنهم - فهذا عثمان - رضي الله عنه - بلغ من
حيائه أنَّه ما كان يتعرَّى حتَّى في حال اغتساله، حتَّى استحتْ من حيائه
الملائكة، كما أخبر عنْه النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
واسمع
لشيءٍ من حياء أمِّنا، أمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حين قالت:
"كنتُ أدخل بيتي الذي دفن فيه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي،
فأضع ثيابي فأقول: إنَّما هو زوْجي وأبِي، فلمَّا دُفِن عمر - رضي الله
عنْه - فوالله ما دخلت إلاَّ وأنا مشدودةٌ عليَّ ثيابي؛ حياءً من عمر"، رضي
الله عنها وأرضاها.
هذا الحياء والاستحياء في عهْد سلفنا
الصَّالح كان مظهرًا عامًّا، وثقافة للمجتمع كله، مرَّ عمر - رضي الله عنْه
- ليلة فسمع امرأة تُنْشِد فتقول:
تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهْ وَأَرَّقَنِي أَنْ لا خَلِيلَ أُلاعِبُهْ
فَوَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ لا رَبَّ غَيْرُهُ لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ
مَخَافَةَ رَبِّي وَالحَيَاءُ يَصُونُنِي وَأُكْرِمُ بَعْلِي أَنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهْ
إخوة الإيمان:
وأعلى
منازل الحياء، وأجلّ صوَرِه، أن يستحييَ العبد من ربِّه تعالى، أن يستحيي
العبدُ من ربِّه حقَّ الحياء، فيحفظَ الرَّأس وما وعي، والبطن وما حوى، أن
يستحْيي المرء من خالقه أن يراه حيث نهاه، أو أن يفقده حيث أمره، أن يستحيي
الإنسان من ربِّه الَّذي خلقه فسوَّاه، ومن كلّ نعمةٍ أسبغ عليه وأعطاه،
ولطريق الهدى وفَّقه وهداه.
وإن تعجبْ فعجب من أُناسٍ
يستحْيون من المخلوق، ولا يستحْيون من الخالق، يستحْيون من فعْل السوء
وقولِه أمام النَّاس، وإذا غابوا عن أعيُن مَن يعرفون، أو كانوا في
الخلوات، ظهر الفجور، وبدت المعاصي، وانكشف المغطَّى، وتعدَّوا حرمات الله،
وانتهكوا حدود الله، وحالهم كمَن قال الله فيهم: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ
النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 108]، وفي الحديث:
((اللهُ أحقُّ أن يُستحيا منه)).
كان الإمام أحمد كثيرًا ما يردِّد قول الشَّاعر:
إِذَا مَا قَالَ لِي رَبِّي أَمَا اسْتَحْيَيْتَ تَعْصِينِي
وَتُخْفِي الذَّنْبَ مِنْ خَلْقِي وَبِالعِصْيَانِ تَأْتِينِي
فَمَا قَوْلِي لَهُ لَمَّا يُعَاتِبُنِي وَيُقْصِينِي
إخوة الإيمان:
حينما
يسودُ الحياء خُلقَ المجتمع، فإنَّه يزيد ترابط أهله، ويعزِّز لُحْمَتهم،
ويقوِّي أُلْفَتهم، ويسوقهم إلى ذُرا المجْد والكرامة، فيُوقَّر الكبير،
ويحتَرم أهلُ الفضل، وتُصان الحرمات، ويُترفَّع عن السفاسف والرَّذائل،
فيزداد المجتمع بذلك أمنًا وأمانًا، وخيرًا وصلاحًا، وصَدَق الصَّادق
المصدوق: ((الحياء كله خير، والحياء لا يأتي إلا بخير)).
وحينما
يغيب الحياء عن المجتمع، فكبِّر على الأخلاق بعده أربعًا، إذا انسلخ
المرْء من حيائه، فليس له من إنسانيَّته إلاَّ اللَّحمُ والدَّم.
إذا ضعف الحياء، قلَّتِ المروءة، ورقَّ الدِّين، واضمحلَّت الرجولة، وخفَّت العفَّة.
فيوم نُزِع الحياء، رأيْنا من شبابِنا مَن يعاكس النساء، ويهتك حرمات الآخَرين، وإنَّ الله يغار، وغَيْرة الله أن تُنتهك محارمه.
يوم غاب الحياء، رأيْنا المرأة تُصافِح الرَّجُل وتُمازحُه، وتُضاحكه وتُجالسه.
يوم ضاع الحياء، رأيْنا الرَّجُل يلبس لِبسة المرْأة، والمرأة تلبَس لبسة الرَّجُل.
يوم مُزِّق الحياء، رأيْنا أشباه الرجال يرقُصُون رِقْصَةَ الإناث، بلا حياء من خالقٍ، أو خجل من مخلوق.
ويوم
فُقِد الحياء، أصبحت المجاهرة بالمعاصي مفخرةً يُتباهى بها، فهذا يفخر
بعلاقاتِه مع الجنس الآخر، وآخَر يَتباهى بما يشاهده من أفلام ومناظرَ
مشينة ، وثالثٌ يتبجَّح بنزع حجاب بناتِه خارج بلاده.
فَلا وَاللَّهِ مَا فِي العَيْشِ خَيْرٌ وَلا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ
يَعِيشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
قلَّة
الحياء، نتيجتُها ونهايتها وقاحة وسفالة ورذالة وبذاءة، قليل الحياء لا
يأْبَه بسفول قَدْره، ولا يأنف من لصوق فعْلةِ السوء على شخصه
إِذَا رُزِقَ الفَتَى وَجْهًا وَقَاحًا تَقَلَّبَ فِي الأُمُورِ كَمَا يَشَاءُ
عباد الله:
إنَّ
الحديث عن خلُق الحياء ليتأكَّد في هذا العصْر، الَّذي تحارَب فيه الأمَّة
في أخلاقها حربًا لا هوادةَ فيها، قنوات تصبِّح النَّاس وتمسيهم ببرامج
ومشاهدَ تدمِّر الأخلاق، وتمزِّق الحياء، وتطبِّع الرَّذيلة، وتغرِّب
المجتمع في سلوكه وأخلاقيَّاته، وطبعه وعاداته، ثمَّ لا تسَلْ بعد ذلك عن
هُموم شبابِنا واهتِماماتهم، وثقافة أبنائِنا وسطحيَّة أفكارهم.
فواجب
- عبادَ الله - على أهْل الإيمان والغيرة، والرُّجولة والمروءة: أن
يهذِّبوا أنفسهم بهذا الخُلُق النبيل، ويسْعَوا في تربية أولادِهِم -
ذُكورِهم وإناثِهم - على هذا المعْدن الأصيل، مع تأْكيد المجتمع دائمًا على
ثقافة الحياء والاستِحْياء، والحرص على عدم نشْر السُّوء والفحْشاء،
والتَّوفيق كلّ التَّوفيق من ربِّ الأرض والسَّماوات.
أقول ما سمعْتُم، وأستغْفِر الله ربِّي وربَّكم من كلِّ ذنبٍ وخطيئة فاستغْفِروه.
الخطبة الثانية
الحمدُ
لله على إحْسانه، والشُّكر له على توفيقِه وامتِنانه، وأشهد أن لا إلهَ
إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له تعظيمًا لشانِه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده
ورسوله الدَّاعي إلى رضْوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحْبِه وإخوانه
وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فيا إخوة الإيمان:
نعيش
في هذه الأيَّام تقلُّباتٍ مُناخيةً، وتغيُّرات معيشيَّة، من تتابع
الأتْربة ودوامها، وقلَّة الأمطار، وغلاء الأسعار، وانتشار السَّرقات،
والسَّطو علانيةً على الممتلكات، مع كثرة الهموم، وضيق الصدور، الَّتي
تكدِّر على المرء عيشَه، وتنغِّص عليْه حياتَه.
عباد الله:
إنَّ
من ضَعف اليقين وغفْلة القلب أن ننظُر إلى هذه التقلُّبات المناخيَّة
والتغيُّرات المعيشيَّة على أنَّها ظواهرُ مادية، لا علاقة لها بأعمال
النَّاس وأفعالهم، وننسى أو نتناسى حقيقة قرْآنيَّة، وهي أنَّ هذه الظواهر
ما أوجدها وأحْدثها إلاَّ ربُّها، وأنه - سبحانه - قد جعل لكلِّ شيءٍ
سببًا، فما هذه البلايا المتعدِّدة، وما هذه المصائب المتجدِّدة، إلاَّ
بعضٌ مما كسبت أيدينا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وقال
تعالى: ﴿ ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
[الروم: 41].
عباد الله:
إن تحدَّثنا عن معاصينا
ومنكراتِنا الَّتي فشَتْ فينا حتَّى أنِسَتها النفوس ولَم تستوْحِشها، فلا
ندري والله من أين نبدأ؟ هل نبدأ بالصلاة المكتوبة، الَّتي خفَّ ميزانها
عند كثير من المسلمين - إلاَّ ما رحم ربي؟! أم نتكلم عن الزَّكاة المفروضة،
الَّتي كنزها البعض ولم يراعوا حقَّ الله فيها؟! أم نتحدث عن قطيعة
الرَّحم وعقوق الوالدين، ونهش أعراض المسلمين؟! أم نتذكَّر تهافت النَّاس
على المعاملات المحرَّمة، وتسابقهم لجمع المال من أي وجه كان؟! أم نستذكر
مخطَّطات عباد الهوى على المرأة المسلمة، ومحاولاتهم المستديمة على إفسادها
بشتَّى الوسائل؟! أم نتكلَّم عن مصيبتنا في برود أحاسيسنا، وقلة ناصحينا؟!
أم طوفان المنكرات الهائل؟!
لقد كثرت ذنوبنا وتعدَّدت، وتلوَّثت معاصينا وتكرَّرت، فلم ندر والله من أين نؤتى؟!
لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللَّهِ حَتَّى تَكَاثَرَتْ ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ
فيا عباد الله:
هذه نذُر الله تستعْتِبُكم، فتوبوا إلى الله واستغفروه، تُوبوا إلى الله جميعًا أيُّها المؤمنون لعلكم تفلحون.
استعيذوا
بالله من قسْوة القلوب وموت الضَّمائر، الَّذين لا يتَّعظون بالمصائب
والمثُلاث؛ قال تعالى: ﴿ فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا
وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43].
فاللهَ اللهَ عبادَ الله في
إصلاح الحال، والمسارعة في تغيير الفعال، والثَّباتَ الثَّبات على الطَّاعة
ولزوم الاستِقامة، فلا تدري - يا عبد الله - متى تأتيك منيَّتك؟! وما تدري
- يا عبد الله – متى يحتنّ حينُك؟! ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا
تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ [لقمان:
34].
عباد الله:
صلُّوا بعد ذلك على مَن بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمَّة وتركها على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها.
اللَّهُمَّ صلّ على محمَّد وعلى آل محمَّد...