الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، والمجازي لها بما عملت، سبحانه (لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 40].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه،
له الحكمة البالغة في أمره وشرعه، والقدرة الباهرة في خلقه، يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه الحافظين لحدود الله والقائمين بأمره، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7] ويقول: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج:40] ويقول -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح-: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك" الحديث.
عباد الله: لقد جرت سنة الله التي لا تتبدل، ووعده الحق الذي لا يتخلف
جرياً؛ ببيان أن الجزاء من جنس العمل؛ فكما يدين الإنسان يدان، أي كما
يجازي يجازى، فمن نصر الله نصره الله، ومن حفظ الله حفظه الله، ومن أوفى
بعهده من الله القائل: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة:40]
سنة قائمة، ووعد حق، وقول صدق لا يتخلف إلا بتخلف شرطه، لا يتخلف ما لم يتخلف ما رتب حصوله عليه.
فليتذكر طالبوا النصر وذوو الحاجة الماسة
للنصر، وكلنا في حاجة لذلك أفراداً أو جماعات فمن يتخلف عنه نصر الله في أي
موقف؛ فلا ناصر له (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [آل عمران: 160].
ليتذكروا أن الله غني عنهم -سبحانه- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
[فاطر:15] وإنما المقصود بنصر الله وحفظ الله نصر دينه وحفظ حدوده، نصر
دينه بمحاولة إقامة شرعه في جميع مرافق الحياة أيًّا كان؛ عسكرياً، أو
إعلامياً، أو اقتصاديًّا، أو اجتماعيًّا، أو ثقافيًّا، أو غير ذلكم.
وحفظه حفظ حدوده بالاحترام وعدم التجاوز لها، وحفظ نواهيه بالاجتناب، وحفظ
أوامره بالامتثال؛ حسبة لله، وسيراً على منهاج الله؛ رجاء ثواب الله وخوف
عقابه.
أما توقع نصر أو حفظ لا لأي من الناس في أي أمر بدون فعل الأسباب الحقيقة؛
فلا أخال ذلك يحصل حسب السنن الكونية وما جرت به العادة، وما أفهمته النصوص
القرآنية والأحاديث النبوية اللهم إلا بكرامة الخير خفي من ذوي الطمرين
الذين لا يؤبه لهم "رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره" أو بامتحان، -فهذا لا دخل للظواهر والسنن فيه، ولا أخاله يحصل لنا ما زلنا على حالنا التي نعيشها (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21] رحماك اللهم يا رب وتوفيقك لما يؤهلنا لنصرك.
والوعد الحق الذي وعد به تعالى من نصر دينه، وحفظ حدوده الذي تتطلع إليه
النفوس وتشرئب إليه القلوب، بل وتبذل في طلبه المهج وربما الأرواح عند
الاقتضاء؛ عام شامل لمصالح الناصرين لله والحافظين لحدوده في معاشهم
ومعادهم، ففي معاشهم بحفظ أبدانهم وأولادهم وأموالهم وأهليهم، يحفظون في
أهليهم حتى بعد الموت (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) [الكهف:82]، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:9]
وفي أخراهم يحفظ أغلى شيء، وأعز شيء لديهم؛ دينهم يحفظه لهم مصوناً من فتن الشهوات والشبهات؛ حتى يلقوا الله عليه طيبين (الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل:32]
وحسبهم في الدارين حفظاً وكلاءة وجزاء؛ مقابل ما قدموه من نصر دين الله
وحفظ حدوده، إن الله معهم بالتأييد والكلاء والنصر، ومن كان الله معه؛ فلا
غالب له (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128] (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج:38] (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر:36]
ومن أعظم ما تجب مراعاته وحفظه: ما جاء النص بالأمر بحفظه لفظاً؛ أمثال قول الله سبحانه: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) [البقرة:238] وقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور:30] وقوله: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:31] وقوله: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) [المائدة:89]
وقول رسوله -عليه الصلاة والسلام-: "الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى" أخرجه أحمد والترمذي.
وحفظ الرأس وما وعى؛ يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظ
البطن وما حوى؛ يتضمن حفظ القلب من الإصرار على ما حرم الله، قال ابن رجب
-رحمه الله- وقد جمع الله ذلك كله في قوله -سبحانه-: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36]
فاتقوا الله -عباد الله-: وامتثلوا أمر الله وأمر رسوله؛ بنصر دينه وحفظ
حدوده تنصروا وتحفظوا، وإلا؛ فبديل النصر الهزيمة، والحفظ الضياع، كما هو
مفهوم النصوص، سنة جارية وإنذار قائم، قال -جل وعلا-: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام:129] وقال: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل:118]