بعد أن عرفنا فائدة الصحبة وأهميتها، وبصورة خاصة صحبة الوارث
المحمدي ؛ وهو الشيخ المرشد المأذون بالتربية الذي ترقَّى في
مقامات الرجال الكمل على يد مرشد كامل مسلسلاً إلى النبي صلى الله
عليه وسلم، وجمع بين الشريعة والحقيقة، ثم تبيَّن معنا أهمية بيعته
وأخذ العهد عنه وملازمته، نذكر هنا بعضاً من الآداب التي تطلب من
المريد الصادق كي يتحقق له الوصول إلى مطلوبه، فقد اتفق أهل الله
قاطبة على أن من لا أدبَ له لا سيرَ له، ومن لا سيرَ له لا وصولَ
له، وأن صاحب الأدب يَبلغ في قليل من الزمن مبلغَ الرجال، وها نحن
نورد بعض آداب المريد مع شيخه وإخوانه:
1ـ آداب المريد مع شيخه:
وهي نوعان: آداب باطنة، وآداب ظاهرة.
فأما الآداب الباطنة فهي:
1ـ الاستسلام لشيخه وطاعته في جميع أوامره ونصائحه، وليس هذا من
باب الانقياد الأعمى الذي يهمل فيه المرء عقله ويتخلى عن شخصيته،
ولكنه من باب التسليم لِذي الاختصاص والخبرة ؛ بعد الإيمان الجازم
بمقدمات فكرية أساسية، منها التصديق الراسخ بإذنه وأهليته واختصاصه
وحكمته ورحمته، وأنه جمع بين الشريعة والحقيقة.. الخ. وهذا يشبه
تماماً استسلام المريض لطبيبه استسلاماً كلياً في جميع معالجاته
وتوصياته، ولا يُعَدُّ المريض في هذا الحال مهملاً لعقله متخلياً
عن كيانه وشخصيته، بل يُعْتَبَرُ منصفاً عاقلاً لأنه سلَّم لذي
الاختصاص، وكان صادقاً في طلب الشفاء.
2ـ عدم الاعتراض على شيخه في طريقة تربية مريديه، لأنه مجتهد في
هذا الباب عن علم واختصاص وخبرة، كما لا ينبغي أن يفتح المريد على
نفسه باب النقد لكل تصرف من تصرفات شيخه ؛ فهذا من شأنه أن
يُضْعِفَ ثقته به ويَحجُبَ عنه خيراً كثيراً، ويَقطعَ الصلة
القلبية والمدد الروحي بينه وبين شيخه.
قال العلامة ابن حجر الهيثمي: (ومَنْ فتح باب الاعتراض على المشايخ
والنظر في أحوالهم وأفعالهم والبحث عنها فإن ذلك علامة حرمانه وسوء
عاقبته، وأنه لا يَنْتُج قط، ومن ثَمَّ قالوا: [ من قال لشيخه لِم
؟ لَمْ يفلح أبداً ] [المقصود بهذا الأدب هو مريد التربية والكمال
والوصول إلى الله تعالى، أما التلميذ الذي يأخذ علمه عن العلماء
فينبغي له مناقشتهم وسؤالهم حتى تتحقق له الفائدة العلمية] أي
لشيخه في السلوك والتربية)[الفتاوى الحديثية" ص55. للمحدث ابن حجر
الهيثمي المكي المتوفى سنة 974هـ].
وإذا أورد الشيطان على قلب المريد إشكالاً شرعياً حول تصرفٍ من
تصرفات شيخه بغية قطع الصلة ونزع الثقة فما على المريد إلا أن
يُحسِنَ الظن بشيخه ويلتمسَ له تأويلاً شرعياً ومخرجاً فقهياً، فإن
لم يستطع ذلك فعليه أن يسأل شيخه مستفسراً بأدب واحترام، كما سيأتي
في بحث مذاكرة المريد لمرشده.
قال العلامة ابن حجر الهيثمي: (ومن فتح باب التأويل للمشايخ، وغض
عن أحوالهم، ووكل أمورهم إلى الله تعالى، واعتنى بحال نفسه وجاهدها
بحسَب طاقته، فإنه يُرجى له الوصول إلى مقاصده، والظفر بمراده في
أسرع زمن) ["الفتاوى الحديثية" ص55].
3ـ أن لا يعتقد في شيخه العصمة، فإن الشيخ وإن كان على أكمل
الحالات فليس بمعصوم، إذ قد تصدر منه الهفوات والزلات، ولكنه لا
يصر عليها ولا تتعلق همته أبداً بغير الله تعالى، لأنه إذا اعتقد
المريد في شيخه العصمة، ثم رأى منه ما يخالف ذلك، وقع في الاعتراض
والاضطراب مما يسبب له القطيعة والحرمان.
ولكن لا ينبغي للمريد حين يعتقد في شيخه عدم العصمة أن يضع بين
عينيه دائماً احتمال خطأ شيخه في كل أمر من أوامره أو توجيه من
توجيهاته، لأنه بذلك يمنع عن نفسه الاستفادة، كمثل المريض الذي
يدخل إلى طبيبه وليس في قلبه إلا فكرة احتمال خطأ الطبيب في
معالجته فهذا من شأنه أن يُضعف الثقة ويُحدثَ الشكَّ والاضطراب في
نفسه.
4ـ أن يعتقد كمال شيخه وتمام أهليته للتربية والإرشاد، وإنما
كَوَّن هذا الاعتقاد بعد أن فتش ودقَّقَ بادىء أمره ؛ فوجد شروط
الوارث المحمدي التي سبق ذكرها قد تحققت في شيخه، ووجد أن الذين
يصحبونه يتقدمون في إيمانهم وعباداتهم وعلمهم وأخلاقهم ومعارفهم
الإلهية [لا ينبغي للمرء أن يكون عاطفياً تغره المظاهر ؛ فيقع في
صحبة أدعياء التصوف دون أن يكون له ميزان شرعي صحيح وتفكير عقلي
سليم، إذ ليس كل من ادعى التصوف صار صوفياً ومربياً ؛ ولو تزيا بزي
المرشدين. كما أنه ليس كل من لبس ثوب الأطباء في المستشفى صار
طبيباً لأن هذه الثياب يلبسها الممرضون والآذنون وغيرهم].
5ـ اتصافه بالصدق والإخلاص في صحبته لشيخه، فيكون جاداً في طلبه،
منزهاً عن الأغراض والمصالح.
6ـ تعظيمه وحفظ حرمته حاضراً وغائباً. قال إبراهيم بن شيبان
القرميسيني: (من ترك حرمة المشايخ ابتلي بالدعاوي الكاذبة وافتضح
بها) ["طبقات الصوفية" ص405].
وقال محمد بن حامد الترمذي رضي الله عنه: (إذا أوصلك الله إلى مقام
ومنعك حرمة أهله والالتذاذ بما أوصلك إليه، فاعلم أنك مغرور
مستدرَج).
وقال أيضاً:
(من لم تُرضِهِ أوامر المشايخ وتأديبُهم فإنه لا يتأدب بكتاب ولا
سنة) ["طبقات الصوفية" ص283].
وقال أبو العباس المرسي:
(تَتَبَّعْنا أحوال القوم فما رأينا أحداً أنكر عليهم ومات
بخير)["مدارج السلوك إلى ملك الملوك" ص12. للشيخ أبو بكر بن محمد
بناني الشاذلي المتوفى سنة 1284هـ].
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني:
(من وقع في عِرض وليٌّ ابتلاه الله بموت القلب) ["مدارج السلوك إلى
ملك الملوك" ص12. للشيخ أبو بكر بن محمد بناني الشاذلي المتوفى سنة
1284هـ].
7ـ أن يحب شيخه محبة فائقة شريطة أن لا ينقص من قدر بقية الشيوخ،
وأن لا يصل غلوه في المحبة إلى حدٌّ فاسد ؛ بأن يُخرج شيخه عن طور
البشرية، وإنما تقوى محبة المريد لشيخه بموافقته له أمراً ونهياً،
ومعرفتِهِ لله تعالى في سيره وسلوكه، فالمريد كلما كبرت شخصيته
بالموافقة ازدادت معرفته، وكلما ازدادت معرفته ازدادت محبته.
8ـ عدم تطلعه إلى غير شيخه لئلا يتشتت قلبه بين شيخين، ومثال
المريد في ذلك كمثل المريض الذي يطبب جسمه عند طبيبين في وقت واحد
فيقع في الحيرة والتردد [ينبغي الملاحظة أن المقصود بالشيخ هنا هو
شيخ التربية لا شيخ التعليم ؛ إذ يمكن لطالب العلم أن يكون له عدة
أساتذة، ويمكن للمريد أن يكون له أساتذة في العلم لأن ارتباطه بهم
ارتباط علمي، بينما صلة المريد بشيخ التربية صلة قلبية وتربوية].
وأما الآداب الظاهرة فهي:
1ـ أن يوافق شيخه أمراً ونهياً، كموافقة المريض لطبيبه.
2ـ أن يلتزم السكينة والوقار في مجلسه، فلا يتكىء على شيء يعتمده،
ولا يتثاءب ولا ينام، ولا يضحك بلا سبب، ولا يرفع صوته عليه، ولا
يتكلم حتى يستأذنه لأن ذلك من عدم المبالاة بالشيخ وعدم الاحترام
له. ومن صحب المشايخ بغير أدب واحترام حرم مددهم وثمرات ألحاظهم
وبركاتهم.
3ـ المبادرة إلى خدمته بقدر الإمكان، فمن خَدَم خُدِم.
4ـ دوام حضور مجالسه، فإن كان في بلد بعيد فعليه أن يكرر زيارته
بقدر المستطاع، ولذلك قيل: (زيارة المربي ترقي وتربي).
وإن السادة الصوفية بنوا سيرهم على ثلاثة أصول "الاجتماع والاستماع
والاتباع" وبذلك يحصل الانتفاع.
5ـ الصبر على مواقفه التربوية كجفوته وإعراضه... الخ، التي يقصد
بها تخليص المريد من رعوناته النفسية وأمراضه القلبية.
قال ابن حجر الهيثمي: (كثير من النفوس التي يراد لها عدم التوفيق
إذا رأت من أستاذ شدة في التربية تنفر عنه، وترميه بالقبائح
والنقائص مما هو عنه بريء. فليحذر الموفق من ذلك، لأن النفس لا
تريد إلا هلاك صاحبها، فلا يطعها في الإعراض عن شيخه) ["الفتاوى
الحديثية" ص55].
6ـ أن لا ينقل من كلام الشيخ إلى الناس إلا بقدر أفهامهم وعقولهم
لئلا يسيء إلى نفسه وشيخه، وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه: (حدثوا
الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ الله ورسولُهُ ؟) [أخرجه
البخاري في صحيحه في كتاب العلم].
وهذه الآداب كلها إنما تُطلب من المريد الحقيقي الذي يريد الوصول
للحضرة الإلهية، وأما المريد المجازي فهو الذي ليس قصده من الدخول
مع الصوفية إلا التزيي بزيهم، والانتظام في سلك عقدهم، وهذا لا
يُلزَم بشروط الصحبة ولا بآدابها. ومثل هذا له أن ينتقل إلى طريق
أخرى ولا حرج عليه، كما أن طريق التبرك لا حرج في الانتقال منها
إلى غيرها كما هو معروف عند المربين المرشدين.
2ـ آداب المريد مع إخوانه:
1ـ حفظ حرمتهم غائبين أو حاضرين، فلا يغتاب أحداً منهم، ولا ينقص
أحداً، لأن لحومهم مسمومة كلحوم العلماء والصالحين.
2ـ نصيحتهم بتعليم جاهلهم وإرشاد ضالهم، وتقوية ضعيفهم.
وللنصيحة شروط ينبغي التزامها، وهي ثلاثة للناصح، وثلاثة للمنصوح.
فشروط الناصح:
1ـ أن تكون النصيحة سراً.
2ـ أن تكون بلطف.
3ـ أن تكون بلا استعلاء.
وشروط المنصوح:
1ـ أن يقبل النصيحة.
2ـ أن يشكر الناصح.
3ـ أن يطبق النصيحة.
3ـ التواضع لهم والإنصاف معهم وخدمتهم بقدر الإمكان إذ "سيد القوم
خادمهم" [أخرجه ابن ماجه والترمذي عن أبي قتادة رضي الله عنه، كما
في "فيض القدير" "شرح الجامع الصغير" للمناوي ج4/ص122].
4ـ حسن الظن بهم وعدم الانشغال بعيوبهم ووَكْلُ أمورهم إلى الله
تعالى:
ولا تر العيب إلا فيك معتقداً عيباً بدا بيِّناً لكنه استترا
5ـ قبول عذرهم إذا اعتذروا.
6ـ إصلاح ذات بينهم إذا اختلفوا واختصموا.
7ـ الدفاع عنهم إذا أُوذوا أو انتُهكِتْ حرماتهم.
8ـ أن لا يطلب الرئاسة والتقدم عليهم لأن طالب الولاية لا
يُوَلَّى.
فهذه جملة من الآداب التي يجب على السالك مراعاتها والمحافظة عليها
فإن الطريق كلها آداب، حتى قال بعضهم: (اجعل عملك ملحاً وأدبك
دقيقاً).
وقال أبو حفص النيسابوري رضي الله عنه: (التصوف كله آداب، لكل وقت
آداب، ولكل حال آداب، ولكل مقام آداب، فمن لزم الأدب بلغ مبلغ
الرجال، ومن حُرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب، مردود من حيث
يظن القبول) ["طبقات الصوفية" للسلمي ص119].
وبالجملة فأدب المريد لا نهاية له مع شيخه ولا مع إخوانه ولا مع
عامة الوجود، وقد أفرده المربون بالتآليف، وألف فيه ابن عربي
الحاتمي، والشعراني، وأحمد زروق، وابن عجيبة، والسهروردي، وغيرهم.