متوفيك
نقف عند هذه الكلمة ، فنحن غالباً ما نأخذ معنى الألفاظ من الغالب الشائع ، ثم تموت المعاني الأخرى في اللفظ ويروج المعنى الشائع فنفهم المقصد من اللفظ .
إن كلمة (( التوفي )) نفهمها على إنها الموت ، ولكن علينا هنا أن نرجع إلى أصل استعمال اللفظية ، فإنه قد يغلب معنى على لفظ ، وهذا اللفظ موضوع لمعان متعددة ، فيأخذه واحد ليجعله خاصاً بواحد من هذه .
إن كلمة (( التوفي )) قد يأخذها واحدا لمعنى (( الوفاة )) وهو الموت ، ولكن ، ألم يكن ربك الذي قال (( إني متوفيك )) ؟ وهو القائل في القرآن الكريم
سورة الأنعام 60
بسم الله الرحمن الرحيم
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
إذن (( يتوفاكم )) هنا بأي معنى ؟ إنها بمعنى ينيمكم . فالنوم معنى من معاني التوفي . ألم يقل الحق في كتابه أيضاً الذي قال فيه (( إني متوفيك ))
سورة الزمر 42
بسم الله الرحمن الرحيم
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا والَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىَ عَلَيهَا المَوتَ ويُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ
لقد سمى الحق النوم موتاً أيضاً . هذا من ناحية منطق القرآن ، إن منطق القرآن الكريم بين لنا أن كلمة (( التوفي )) ليس معناها هو الموت فقط ولكن لها معان أخرى ، إلا أنه غلب اللفظ عند المستعملين للغة على معنى فاستقل اللفظ عندهم بهذا المعنى ، فإذا ما أطلق اللفظ عند هؤلاء لا ينصرف إلا لهذا المعنى ، ولهؤلاء نقول : لا ، لا بد أن ندقق جيداً في اللفظ ولماذا جاء ؟
وقد يقول قائل : ولماذا يختار الله اللفظ هكذا ؟
والإجابة هي : لأن الأشياء التي قد يقف فيها العقل لا تؤثر في الحكام المطلوبة ويأتي فيها الله بأسلوب يحتمل هذا ، ويحتمل ذلك ، حتى لا يقف أحد في أمر لا يستأهل وقفة .
فالذي يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رفعه الله إلى السماء ما الذي زاد عليه من أحكام دينه ؟ والذي لا يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رُفع ، ما الذي نقص عليه من أحكام دينه ، إن هذه القضية لا تؤثر فى الأحكام المطلوبة للدين ، لكن العقل قد يقف فيها ؟
فيقول قائل : كيف يصعد إلى السماء ؟ ويقول آخر : لقد توفاه الله .
وليعتقد أي إنسان كما يُريد لأنها لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين .
إذن : فالأشياء التي لا تؤثر في الحكم المطلوب من الخلق يأتي بها الله بكلام يحتمل الفهم على أكثر من وجه حتى لا يترك العقل في حيرة أمام مسألة لا تضر ولا تنفع .
وعرفنا الآن أن (( توفى )) تأتي من الوفاة بمعنى النوم من قوله سبحانه :
سورة الأنعام 60
بسم الله الرحمن الرحيم
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ومن قوله سبحانه وتعالى
سورة الزمر 42
بسم الله الرحمن الرحيم
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا والَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىَ عَلَيهَا المَوتَ ويُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ
إن الحق سبحانه قد سمى النوم موتاً لأن النوم غيب عن حس الحياة . واللغة العربية توضح ذلك :
فأنت تقول - على سبيل المثال – لمن أقرضته مبلغاً من المال ، ويطلب منك أن تتنازل عن بعضه .. فتقول : لا
لا بد أن أستوفي مالي ، وعندما يُعطيك كل مالك ، تقول له : استوفيت مالي تماماً ، فتوفيته هنا تعني : أنك أخذت مالك بتمامه .
إذن معنى (( متوفيك )) قد يكون هو أخذك الشيء تاماً .
أقول ذلك حتى نعرف الفرق بين الموت والقتل ، وكلاهما يلتقي في أنه سلب للحياة ، وكلمة سلب للحياة قد تكون مرة بنقض البنية ، كضرب واحد لأخر على جمجمته فيقتله ، هذا لون من سلب الحياة ، ولكن بنقض البنية .
أما الموت فلا يكون بنقض البنية ، إنما يأخذ الله الروح ، وتبقى البنية كما هي ، ولذلك فرق الله في قرآنه الحكيم بين (( موت )) و (( قتل )) وإن اتحد معاً في إزهاق الحياة .
آل عمران 144
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَّنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
إن الموت والقتل يؤدي كل منهما إلى انتهاء الحياة ، لكن القتل ينهي الحياة بنقض البنية ، ولذلك يقدر البعض البشر على البشر فيقتلون بعضهم بعضاً . لكن لا أحد يستطيع أن يقول : (( أنا أريد أن يموت فلان )) ، فالموت هو ما يجريه الله على عباده من سلب للحياة بنزع الروح .
إن البشر يقدرون على البنية بالقتل ، والبنية ليست هي التي تنزع الروح ، ولكن الروح تحل في المادة فتحياً ، وعندما ينزعها الله من المادة تموت وترم أي تصير رمة .
إذن : فالقتل إنما هو إخلال بالمواصفات الخاصة التي أرادها الله لوجود الروح فى المادة ، كسلامة المخ والقلب .
فإذا اختل شيء من هذه المواصفات الخاصة الأساسية فالروح تقول (( أنا لا أسكن هنا )) .
إن الروح إذا ما انتزعت ، فلأنها لا تريد أن تنتزع .. لأي سبب ولكن البنية لا تصلح لسكنها .
ونضرب المثل ولله المثل الأعلى :
إن الكهرباء التي في المنزل يتم تركيبها ، وتعرف وجود الكهرباء بالمصباح الذي يصدر منه الضوء . إن المصباح لم يأت بالنور ، لأن النور لا يظهر إلا فى بنية بهذه المواصفات بدليل أن المصباح عندما ينكسر تظل الكهرباء موجودة ، ولكن الضوء يذهب .
كذلك الروح بالنسبة للجسد . إن الروح لا توجد إلا في جسد له مواصفات خاصة . وأهم هذه المواصفات الخاصة أن تكون خلايا البنية مناسبة ، فإن توقف القلب ، فمن الممكن تدليكه قبل مرور سبع ثواني على التوقف ، لكن إن فسدت خلايا المخ ، فكل شئ ينتهي لأن المواصفات اختلت .
إذن : فالروح لا تحل إلا فى بنية لها مواصفات خاصة ، والقتل وسيلة أساسية لهدم البنية ، وإذهاب الحياة ، لكن الموت هو إزهاق الحياة بغير هدم البنية ، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى .
ولكن خلق الله يقدرون على البنية ، لأنها مادة ولذلك يستطيعون تخريبها .
إذن فمتوفيك )) تعني مرة تمام الشيء (( كاستيفاء المال )) وتعني مرة (( النوم )) . وحين يقول الحق : (( إني متوفيك )) ماذا يعني ذلك ؟ إنه سبحانه وتعالى يريد أن يقول : أريدك تاماً
أي أن خلقي لا يقدرون على هدم بنيتك ، إني طالبك إلى تاماً ، لأنك في الأرض عرضه لأغيار البشر من البشر ، لكني سآتي بك في مكان تكون خالصاً لي وحدي ، لقد أخذتك من البشر تاماً ، أي أن الروح في جسدك بكل مواصفتها ، فالذين يقدرون عليه من هدم المادة لن يتمكنوا منه .
إذن ، فقول الحق : (( ورافعك إليّ )) هذا القول الحكيم يأتي مستقيماً مع قول الحق (( متوفيك )) .
وقد يقول قائل : لماذا نأخذ الوفاة بهذا المعنى ؟
نقول : إن الحق بجلال قدرته كان قادر على أن يقول : إني رافعك إلىّ ثم أتوفاك بعد ذلك . .. . ونقول أيضاً : من الذي قال : إن (( الواو )) تقضي الترتيب فى الحدث ؟ ألم يقل الحق سبحانه :
القمر 16
بسم الله الرحمن الرحيم
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي و َنُذُرِ
هل جاء العذاب قبل النذر أو بعدها ؟ إن العذاب إنما يكون من بعد النذر . إن (( الواو )) تفيد الجمع للحدثين فقط . ألم يقل الله في كتابه أيضاً :
الأحزاب 7
بسم الله الرحمن الرحيم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيْسَى ابنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيْثَاقًا غَلِيظًا
إن (( الواو )) لا تقتضي ترتيب الأحداث ، فعلى فرض انك قد أخذت (( متوفيك )) أي (( مميتك )) ، فمن الذي قال : إن (( الواو )) تقتضي الترتيب في الحدث ؟ بمعنى أن الحق يتوفى عيسى ثم يرفعه .
فإذا قال قائل : ولماذا جاءت (( متوفيك )) أولاً ؟
نرد على ذلك : لأن البعض قد ظن أن الرفع تبرئه من الموت .
ولكن عيسى عليه السلام سيموت قطعاً ، فالموت ضربه لازب ، ومسألة يمر بها كل بشر .
هذا الكلام من ناحية النص القرآني . فإذا ما ذهبنا إلى الحديث وجدنا أن الله فوض رسوله صلى الله عليه وسلم ليشرح ويبين ، ألم يقل الحق :
النحل 44
بسم الله الرحمن الرحيم
بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
فالحديث كما رواه البخاري ومسلم : ( كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ) ؟
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن ابن مريم سينزل مرة أخرى .
ولنقف الآن وقفة عقلية لنواجه العقلانيين الذين يحاولون التعب في الدنيا فنقول : يا عقلانيون أقبلتم في بداية عيسى عليه السلام أن يوجد من غير أب على غير طريقة الخلق فى الإيجاد والميلاد ؟
سيقولون : نعم .
هنا نقول : إذا كنتم قد قبلتم بداية مولده بشيء عجيب خارق للنواميس فكيف تقفون في نهاية حياته إن كانت خارقة للنواميس ؟
إن الذي جعلكم تقبلون العجيبة الأولى يمهد لكم أن تقبلوا العجيبة الثانية . إن الحق سبحانه وتعالى يقول :
آل عمران 55
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
إن الله سبحانه وتعالى يبلغ عيسى عليه السلام إنني سأخذك تاما غير مقدور عليك من البشر ومطهرك من خبث هؤلاء الكافرين ونجاستهم ، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة .
وكلمة (( اتبع )) تدل على أن هناك (( مُـتَّـبـعًـا )) يتلو مُـتّبَعا .
أي أن المتِـبع هو الذي يأتي بعد ، فمن الذي جاء بعد عيسى عليه السلام بمنهج من السماء ؟
إنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
ولكن على أي منهج يكون الذين اتبعوك ؟
أ على المنهج الذي جاؤا به أم المنهج الذي بلغته أنت يا عيسى ؟
إن الذي يتبعك على غير المنهج الذي قلته لن يكون تبعا لك ، ولكن الذي يأتي ليصحح الوضع على المنهج الصحيح فهو الذي اتبعك .
وقد جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليصحح الوضع ويبلغ المنهج كما أراده الله (( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة )) .
فإن أخذنا المعنى بهذا :
إن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي التي اتبعت منهج الله الذي جاء به الرسل جميعاً ، ونزل به عيسى أيضاً
أن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد صححت كثيراً من القضايا التي انحرف بها القوم .
اللهم تقبل منا صالح الأعمال
من خواطر الشيخ / محمد متولي الشعراوي