الابتلاء
بين الشيخ حفظه الله أن الابتلاء تمييز وتمحيص للناس بين الصادق والكاذب،
ثم سطَّر بعض مواقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وابتلاءاتهم، مبيناً
ثمار وفوائد الابتلاء، ثم ختم بذكر الدروس المستفادة من ابتلاء الله تعالى
لعباده.
الابتلاء تمحيص وتمييز للناس
اللهم لك الحمد خيراً ما نقول، ومثل ما نقول، وفوق ما نقول، لك الحمد
بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، من
استنصر بك نصرته، ومن تقرب إليك أحببته، ومن اعتمد عليك كفيته، ومن حاربك
خذلته، ومن ضادك كشفت أستاره، وهتكت أسراره، وأظهرت عواره، وفضحت أخباره،
والصلاة والسلام على معلم الخير، وهادي البشرية، ومزعزع كيان الوثنية صلى
الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذه المحاضرة "الابتلاء"
لعمرك ما مديت كفي لريبة وما حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا دلني فكري ولا نظري لها ولا قادني سمعي إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
[العنكبوت:2-3].
أحسب الأبرار والأخيار، والصالحون والعلماء والدعاة أن الإسلام ادعاء، وأن
لا إله إلا الله كلمة تقال فقط، إذاً كان يدّعيها المدّعي، ويفتري بها
المفتري، ولا يُميز بين المؤمن والمنافق، والصادق والكاذب، ولكن أبى الله
إلا أن يميز بين الصنفين: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ
فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
[الأنبياء:18].
الله الذي يقذف بالحق على باطل الشائعات والمفتريات والأطروحات، وباطل
الكلمات الكاذبات؛ فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون، ومما
تتكلمون، ومما تظنون، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ
الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] ويقول سبحانه: وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]
وقال جل اسمه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ
وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان:20] وقال جل اسمه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].......
الابتلاء من أسرار الدين
إن هذا الدين صعب المراس، إنه لا يؤتى لكل أحد إلا بابتلاء، وإن من أسرار
خلوده أن يستقر مع المبتلين في الأرض؛ فيظهر الله صدقهم ونصحهم ووضوحهم
ويعلم الله ثباتهم، قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] الناس قد
جمعوا لكم بالعراقيل، والمخططات، والشائعات، فخافوهم: فَزَادَهُمْ
إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل
عمران:173-174].
رماني الخصم بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
فعشت ولا أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي
يا ضعيف العزم
يقول ابن القيم رحمه الله: "يا ضعيف العزم! الطريق شاق طويل، ناح فيه نوح،
وذبح يحيى، واغتيل زكريا، وطُعن عمر ، وضرج عثمان بدمائه، وقُتل علي ،
وجلدت ظهور الأئمة، وحبسوا لماذا؟ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] ولكن من الحق؟ من القوي إلا
الله؟
كان عليه الصلاة والسلام يبتهل في الليالي ويقول: {اللهم أنت الحق، ووعدك
حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق } يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] حسبك أن يكفيك الله.
يا حافظ الآمال أنتت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
[الأنفال:8].. قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ
يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِين [آل عمران:54] فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ
الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ
الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل:26].
فالـزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
عز جاهه ما أقواه! وما أعظمه! وما أعز جنده! إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].
الأنبياء والابتلاء
الابتلاء تاريخ وقصة طويلة منذ أن نـزلت لا إله إلا الله في الأرض، ابتلي
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، كلٌ مبتلى، وتعال
إلى بعض قصصهم وإلى تلك الدروس العظيمة التي نستفيدها من حياتهم عليهم
الصلاة والسلام.......
ابتلاء موسى عليه السلام
أما موسى فذاق الأمرين، رسول التوحيد أنقى وأوضح من الشمس في رابعة النهار،
الذي أتى إلى الطاغية فرعون في القصر يقول له لما قال: فَمَنْ رَبُّكُمَا
يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدَى [طه:49-50] ولكن على صدقه ونصحه وعصمته ماذا فعل به؟
قال أهل التفسير وأهل التاريخ: أتى قارون بكنـز عظيم -جرةً مملوءةً ذهباً-
إلى امرأةٍ زانيةٍ من بني إسرائيل فقال: خذي هذه الجرة، فإذا اجتمع الناس
وقام موسى فينا خطيباً، فقومي وابكي ومزقي شعرك، وأقسمي أن موسى زنا بك،
واجتمع الناس وموسى يتكلم عن التوحيد والإيمان، وقارون يريد أن يمرغ دعوة
التوحيد والإيمان، يريد أن يمرغ دعوة موسى عليه السلام في التراب، وأن يمرغ
منهجه لئلا يثق به الناس مرة ثانية، ولئلا يصدقه الناس مرة ثانية، ولكن
يأبى الله إلا أن يتم نوره، فالنور نوره، والرسالة رسالته، والرسول رسوله،
والمنهج منهجه، فبينما موسى يتكلم، وإذا بالبكاء يرتفع من تلك المرأة تلطم
وجهها؛ إنها الخطط البائسة؛ إنها الأكاذيب والتلصيقات، إنها أنواع من
المسارح يقدمها بعض المغرضين الحاقدين على الإسلام وعلى علمائه ودعاته.
سكت موسى والتفت إلى المرأة، قالت: أنت فعلت الفاحشة بي، فتلعثم وبكى، ليس
في الأرض إلا موسى الذي أرسله الله بالرسالة يفعل هذه الفعلة، فوقف يبكي،
ولكنه صمد وعرف أنه ابتلاء؛ فرفع عصاه ووقف أمام المرأة وقال: أسألك بالذي
شق البحر لي أفعلت ذلك؟ قالت: لا. ثم بينت أمرها، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ
اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69]
فزاد وجاهةً وقوةً، وإثباتاً لمنهجه أنه صادق.
ابتلاء يوسف عليه السلام
ومن يشك في يوسف! ومن نحن مع يوسف وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، نحن
لا نساوي غبار أقدامهم، نحن لا نساوي الشعرات التي تتساقط من رءوسهم، نحن
لا نصلح خدماً لهم.
هم أصفى الخلق، وأخلص الناس، وأبر الناس، وأوفى الناس، رموا به في السجن:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ
[يوسف:33] ومكث في السجن، وعلم الله أنه صادق ومخلص.
أيزني يوسف؟ أيمكن أن يلطخ دعوته؟ أينسى ربه؟ أين رقابة الله؟
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإلـه وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
ولكن الصبح قريب وأتى الفرج من الله، ولا يأتي الفرج إلا منه سبحانه وحده،
حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء أبداً لأن
الله معه.
ابتلاء محمد صلى الله عليه وسلم
أما رسولنا عليه الصلاة والسلام فعاش مع ريبةٍ وشائعةٍ استهلكت شهراً من
حياته كما يقول سيد قطب رحمه الله: "شهراً كاملاً وقف على أعصابه" ماذا
حدث؟ أتى المغرضون، وخصماء الإسلام، وأذناب اليهود، فقالوا: عائشة زنت، لا
والله والله لا تزني وهي الصادقة بنت الصادق، والمبرأة من فوق سبع سماوات،
ولكن هكذا يُلطخ الحق، ولكن مهما قالوا فالعاقبة للمتقين: إِنَّا
لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا
بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ [النحل:127-128].
أتى الخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم تكتحل عينه بنوم ولكن يوم
يعرف المسلم أن أمامه جيلاً وتاريخاً من الأنبياء والرسل والدعاة والصالحين
ابتلوا، وصبروا، وعلموا أنه لابد من هذه المرحلة مرحلة الابتلاء.
يقول الشافعي رحمه الله لـمالك : "أيبتلى العبد أم يُمكَّن" أي: هل يُمكَّن
في الإمامة في الدين أم يبتلى؟ قال: "لا يُمكّن حتى يبتلى" وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] الرسول عليه الصلاة السلام أصيب في أعز
شيء في حياته، المال يسهل، وكل شيء يهون سواء كان البيت أو الأطفال أو
الزوجة، أو المنصب أو الوظيفة، إلا العرض والدعوة والرسالة.
إن أعداء الإسلام يريدون أن يُفقدوا هذا الصوت وهذه الكلمة وهذه الرسالة
ثقتها؛ فإذا فقد الإنسان ثقته، ولُطخت سمعته، وفُضحت كلمته، فمن يثق به ومن
يصدقه، ومن يستمع إليه ومن يسمع كلامه، ومن يستفيد منه؟
أصيب عليه الصلاة والسلام في أعز شيء عنده وهي امرأته، قال المنافقون
والمغرضون والحاقدون: امرأته زانية، ياألله وهل تزني الحصان الرزان؟ ياألله
وهل تزني الصديقة بنت الصديق ؟! وتعطل عليه الصلاة والسلام، وقف ليخطب
فإذا العيون تنظر إليه؛ لأن الشيطان أوحى إلى بعض الناس بالخبر، يتكلم إلى
الناس، وإذا عرضه قد فضح أمام الناس، فمن يعيد عرضه؟!
بل يسهر الليل:
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
فانتظر عليه الصلاة والسلام أن يأتيه خبر من السماء، لعل جبريل -عليه
السلام- أن ينـزل بآيات، لكن انقطع الوحي شهراً كاملاً ثم أنـزل الله تعالى
هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا
تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا
إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:11-12] لكن كثيراً من الناس لم يقل هذا الكلام.
إن الشائعة إذا ظهرت في الناس من يقنع الناس، ويقول للناس: إنها خطأ، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {كيف وقد قيل }.
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلا
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فعاشها شهراً كاملاً، لأنه أصبر الصابرين،
وأصدق الصادقين، وأخلص المخلصين، ولكن أراد الله أن يرفع منـزلته أكثر
وأكثر، ويجعل منهجه باقياً، وأن يعلم تلاميذه وأتباعه وحُفاظ رسالته أن هذا
هو الطريق، ففيه تقديم الرءوس، وتقديم الدماء والأموال إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ
وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ
الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[التوبة:111] وحملها عليه الصلاة والسلام، وسمعت عائشة بالخبر رضي الله
عنها قالت: فما رقى لي دمع شهراً كاملاً؛ ويدخل عليها صلى الله عليه وسلم
ويقول لها: يا عائشة ! إن كنت قد ألممت بذنبٍ؛ فتوبي إلى الله، وإن كنت
بريئةً، فسوف يبرئك الله، فقالت لأبيها: رد، فوقف أبو بكر حائراً يبكي ماذا
يقول؟! إنها معضلة أودت بسرور وبسعادة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال:
والله لا أجد ما أقول، ثم قالت لأمها: ردي، قالت: والله لا أدري ما أقول،
فقامت هي لتقول: والله ما أجد لي كلاماً إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]}.
الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه؛ الصبر الجميل الذي يصلك برضوان الله،
والحياة والابتلاء تمحيص ليخرج الرجال، وليعلمهم أن دعوتهم ينبغي أن تكون
لله، وأن النصر من عند الله، وأنه لا يزكيهم إلا الله، وأنه لا ينبغي أن
ينصرفوا بدعوتهم رياءً ولا سمعةً ولا شهرةً ولا ظهوراً، وجلس عليه الصلاة
والسلام وإذا بالوحي ينزل، وإذا بالبراءة تنـزل من السماء، بَّرأها الله من
فوق سبع سماوات، وكذب المنافقين والحاقدين، وكذب عملاء الخيانة واليهود،
وأشياع المنافقين في كل زمن.
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].
ثمار وفوائد الابتلاء
في الابتلاء قضايا:......
من ثمار الابتلاء: معرفة حقيقة الناس ومصداقيتهم
أولها: أن الله عز وجل جعل الابتلاء سنة؛ ليعلم الصادق من الكاذب، وليعلم
المؤمن من المنافق، ولو كان الأمر للرخاء والسهولة واليسر؛ لادعى كل مدعٍ
أنه صادق، ولكن ليظهر الله الصادقين أهل الصلوات الخمس؛ ولا يخزيهم أبداً.
والنبي عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء يوم نـزل عليه الوحي، خاف لما
رأى عظم الملك، فذهب إلى خديجة رضي الله عنها ترتعد فرائصه، ووجِلَ قلبه
وخاف وقال: {خفت على نفسي، قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل
الرحم، وتُقرئ الضيف، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق } أتظن أن الله
يخزي أهل الصلوات الخمس؛ أهل القرآن؛ وأهل السنة ؛ وأهل التسبيحات؛
والصيام؛ وقيام الليل، والصدق مع الله؟! لا والله. إنما يجعل الله الرجس
على الذين لا يؤمنون، إنما يخزي أعداءه ومحاربي دينه الذين لا يعرفون
الصلاة، ولا القرآن، ولا المسجد، ولا السنة، ولا الصدق مع الله، ولا يعرفون
موعود الله، ولا يقدمون دقيقة من أوقاتهم، ولا يعرفون إلاَّ الكأس والعهر،
والفحش والخيانة، وانتهاك حرمات الله، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وأرضاه: [[صنائع المعروف تقي مصارع السوء ]] فمن فعل معروفاً وقاه الله
سبحانه منازل الخاسرين: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وقال
سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ
وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]
من ثمار الابتلاء: تمحيص الصف الإسلامي من المنافقين
ومن دروس الابتلاء أيضاً: تمحيص الصف الإسلامي، ليعرف الله من الذي يحب أن يُوصم الأخيار بالوصمات والتهم.
إن هذا الدين مستهدف بأساليب الله أعلم بها، حينها يعرف سُبحَانَهُ
وَتَعَالَى من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، قال سبحانه:
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ
آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19] والله يعلم من الذي يسر
بإخفاق الصالحين، إن المنافق يضحك بملء فيه يوم يمرغ الإسلام في التراب؛
حينها ينتصر الباطل ويخطب الدجال كما قال الذهبي قال: "إذا علقت الشائعة
وانتشرت وصُدقت؛ حينها يخطب الدجال من على المنبر، وتتعطل المساجد، وتكذب
الدعوة الصادقة، ويخرج المناوئون الحقراء الذين لا يتكلمون إلا في الظلام،
وليس معنا شيء، ما معنا إلا رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وابن القيم رحمه الله يتكلم عن أولياء الله، وقد ذكر كثير منهم الدكتور بكر
أبو زيد في حلية طالب العلم ، فقال: "بيوتهم المساجد، وإمامهم رسول الله
-عليه الصلاة والسلام- اسمهم أهل السنة ، لا يريدون إلا وجه الله" دعها فإن
معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر.
فيريد الله بهذه الابتلاءات وهذه الفتن أن يمحص الصفوف، وأن يعرف من هو
الصادق الذي يغتاظ ويتلمظ ويغار على دينه ورسالته يوم تمرغ في التراب، أو
الآخر: المعربد السكير الذي يضحك ويفرح ويرقص على موت الإسلام وذبحه، ولكن
الإسلام -والله- لا يموت.
يقول أحد علماء الإسلام واسمه إسماعيل صبري : "الإسلام والدعاة يمرضون ولا
يموتون" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
[الحجر:9]
من ثمار الابتلاء: تكفير الخطايا والذنوب
المسألة الثالثة: من أسرار الابتلاء التي ينـزلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في
الأرض: تمحيص الخطايا والذنوب التي تعلق بالأخيار، والتي لا يسلم منها
الأبرار، فيحتها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتاً، فنسأله سبحانه أن نكون ممن
إذا أذنب استغفر وإذا أُنعم عليه شكر، وإذا اُبتلي صبر، إن منازل الصادقين
ثلاث منازل، إذا ابتلي العبد صبر، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالوا
لـعثمان : ادخل على الرسول عليه الصلاة والسلام يبشرك بالجنة على بلوى
تصيبك، قال: الله المستعان! وما هي البلوى؟ ضرج في التراب وذبح في بيته على
المصحف.
جرحان في كبد الإسلام ما التأما جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي
وتقدم المغرضون في الصف وقالوا: ظالم، وطعنوه بالخنجر؛ فوقع وهو يقول: حسبي
الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وهذه سنة ماضية.
لما أدخل ابن تيمية السجن -رحم الله ابن تيمية ، ورفع الله قدر أبي العباس
على ما فعل وبذل من دمعه ودمه، وعروقه وسمعته، وعلمه ووقته- أدخله السجان
وأغلق عليه الباب، فقال ابن تيمية : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ
بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ
[الحديد:13] يقول له أحباؤه: ماذا أصابك؟ فدمعت عيناه وقال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
الابتلاء تمحيص، قال عليه الصلاة والسلام: {ونقني من الذنوب والخطايا كما
ينقى الثوب الأبيض من الدنس } الابتلاء غسل للقلب وللمنهج، وغسل للطريق من
القاذورات التي تعلق به، إما شهرة وإما سمعة وإما رياء لا يسلم منها العبد،
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير
وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء
صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن }.
دروس في الابتلاء
والابتلاءات فيها دروس.......
من دروس الابتلاء: التوكل والاعتماد على الله
ومنها: أن هذا الإسلام مهما قيل: إنه انتصر، فلا زال في الطريق عقبات، ولو
قالوا: صحوة عارمة، فأمام الصحوة ألف عقبة، أعداء الله كثير، يعملون الكثير
من العراقيل والمخططات المعقدة التي يحار العبد أمامها، مخططات يعجز
الشيطان أن يكتشفها، تأتي من كل باب ومن كل جهة، ونحن ليس لنا حيلة كما
يقول ابن القيم : "العبد الصالح يفوض أمره إلى الله، ولا يعتمد على حيلته"
ويقول: حالنا كما قال نوح عليه السلام: رب أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ
[لقمر:10]
فاترك الحيلة فيها واتكل إنما الحيلة في ترك الحيل
فليس لنا حيلة ولا ذكاء ولا دهاء ولا قوة، وليس معنا إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكم كالوا عليه من التهم الباطلة عليه الصلاة السلام، فقالوا: شاعر، كذاب،
ساحر، كاهن، امرأته فعلت؛ رسالته ليست صادقة؛ يأخذ أجراً على الدعوة؛ إنما
يعلمه بشر؛ مفترٍ على الله؛ وهو يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ولما دخل غار حراء ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فطوقه الكفار، فقال أبو بكر :
{يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى قدميه } أرادوا أن يدخلوا الغار؛
فأعمى الله بصائرهم وأبصارهم عن الغار.
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
لم يدخلوا الغار يقول أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! والله لو نظر
أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، فتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق، من الذي
يتبسم وحوله خمسون شاباً كل شاب معه سيف يريد أن يذبحه؟ من الذي يتبسم وهو
في غار صغير وحوله الكفر من كل جهة ولا حرس معه إلا حرس الله؟ لا رمح ولا
سيف ولا خنجر ولا سكين ولا شيء.
والفيـافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تحزن إن الله معنا ونصره الله }.
الخطيب البغدادي صاحب التاريخ ابتُلي بفرية أستحي أن أقولها في هذا المجلس،
ورأى في المنام قائلاً يقول: أتريد يا خطيب ! أن تصل مبلغ الإمامة بلا
ابتلاء، أتريد أن تصل إلى تلك المكانة بلا ابتلاء، فعرف أنه ابتلاء من
الله.
من دروس الابتلاء: معرفة مخططات ومكائد أعداء الإسلام
ومن دروس الابتلاء: أن نعرف أعداء الإسلام، ومخططات اليهود، وقد نشرت مجلة
المجتمع في آخر عدد لها في أول صفحة أن أول مخطط -الآن- لليهود وأعدائهم
تلصيق وتفضيح الدعاة وتلطيخ سمعتهم، فإذا لُطخت بالتراب انصرفت الأجيال
عنهم، وعن المساجد والحلقات والمحاضرات، ونظرت الجماهير إلى طلبة العلم
والعلماء أنهم ليسوا مصدر ثقة، فلا يوثق بهم، وقد فُعل في كل قطر هذا
الفعل، فُعل في فلسطين في رواد الانتفاضة والصحوة وسجلوها في تقارير، ولكن
مع معرفتنا بأن الابتلاء حاصل لابد أن نعرف مع من نتعامل، ومع من نجلس، ومع
من نتكلم، ونعرف ما حولنا، وأنه يراد بالبلاد الإسلامية والمقدسات وعلماء
الإسلام ودعاته وعباده أعظم المكائد.
إن من خطط العلمانية وأنتم تجدونها في بعض الأشرطة أو الكتب التي تتحدث
عنهم مثل الشيخ سفر الحوالي وغيره، ومثل كتاب التنصير ، إن من خططهم تلطيخ
سمعة الدعاة، فإذا لُطخت لا يثق بهم أحد ولا يُقبل عليهم أحد، ولا يتعلم
عندهم أحد، فإذا حصل هذا انتصر الباطل.
أعظم ما يصاب به الناس التشكيك في الرسالة، وأعظم ما يصاب به الناس التشكيك
في العلماء والدعاة وطلبة العلم؛ فينفض عنهم الجموع، ويأخذون رموز الباطل،
وأدعياء الضلالة وأهل الشهوات، وعباد الأغنية الماجنة، والسهرة الخليعة،
والعربدة والكأس، وحينها لا يحقق لهم انتصار، واجهوا الإسلام بالسلاح؛
فانتصر الإسلام عليهم، واجهوهم في فلسطين وفي أفغانستان وفي كل مكان فما
استطاعوا أن يحققوا شيئاً، فأخذوا وسيلة أخرى أشد مكراً وخبثاً، ولكن:
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
[الأنفال:30].
من دروس الابتلاء: الابتلاء علامة لمحبة الله للعبد
ومن دروس الابتلاء: أن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن
سخط فله السخط، وبعض الابتلاءات تجعل ضعاف النفوس يتحول عن الإسلام تماماً،
وبعضهم يصاب بمصيبة فيترك المسجد ويكفر بالدين ويعرض عن لا إله إلا الله،
ويترك منهج الله! خسر الدنيا والآخرة، انقلب على وجهه، قال تعالى: وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ
اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
[الحج:11] لكن يأبى الله أن ينقلب العبد على وجهه بعد أن ذاق حلاوة
الإيمان، وبعد أن أحب محمداً عليه الصلاة والسلام أكثر من أمه وأبيه.
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]
ولكن يقول ابن تيمية لأنه قد افُتري عليه افتراءات وهو في الإسكندرية يقول:
"يحق للعبد أن يدافع عن نفسه في وقت البلاء".
فأقول: والله الذي لا إله إلا هو إن العبد يتمنى صباح مساء أن يصب دمه خدمة
للا إله إلا الله، والله إن أعظم ما يمكن أن أتمناه وأنتم -إن شاء الله-
أن تسفك دماؤنا في الأرض لتنتصر لا إله إلا الله، اللهم إنا نسألك أن تصدق
قولنا بشهادةٍ في سبيلك، اللهم اسفك دماءنا لترتفع لا إله إلا الله، اللهم
قطّع رءوسنا ليبقى الحق حقاً في الأرض وتبقى الرسالة.
فداً لك من يقصر في فداك فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
لا يحل به إلا لا إله إلا الله، وإلا الرسالة والرسول عليه الصلاة السلام؛
حينها يعرف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنا نريد أن ينتصر هذا الدين على
جماجمنا، ولحومنا ودمائنا، ولا أبقى الله باقية لمن يريد أن يسفل الدين
ليرتفع هو، أو يهزم أو يخسر أو ينال شهرة على حساب الدين حاشا وكلا!
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ
آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل
عمران:193] ربنا إننا أتينا نريد ما عندك.
وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
من دروس الابتلاء: حقارة الدنيا عند الابتلاء
ومن دروس الابتلاء: أن الحياة تصبح بشهواتها وملاذها ووظائفها وأموالها
وبهارجها ودعاياتها، تصبح ضعيفةً ضئيلةً: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا
وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
الابتلاء ببعث الهمة في النفوس
ومن دروس الابتلاء: أن العبد عليه أن يواصل بهمة أعظم وأعلى، وبقوةٍ وصرامةٍ، ويستمر ويؤدي لأنه قد باع نفسه من الله.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
حينها يجب على المسلم أمور:
أولها: أن يخلص لله وأن يصدق في دعوته، وأن يؤدي دعوته على أكمل وجه، وألا
يتوقف، وأما هذه الابتلاءات فإنها عواصف: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
[الرعد:17]
الحق سوف يبقى وسوف ينتصر، وسوف تبقى المساجد، وسوف يهيمن الإسلام، وتعود
لنا مقدساتنا، ويعود القدس إن شاء الله، وتعود أفغانستان ، وينتصر الإسلام،
وترتفع لا إله إلا الله وتنتصر هذه الصحوة، ويعم الأرض -إن شاء الله-
انتصار خالد، ولكن هذه التقلبات والأعاصير إنما هي في الطريق، ولكن العاقبة
سوف تتم اليوم أو غداً -إن شاء الله- وليس رهناً أن نرى انتصار الإسلام في
هذه الفترة فما علينا إلا أن نقدم أموالنا وأوقاتنا ودماءنا وجماجمنا
ليعلم الله أننا صدقنا؛ وأننا جاهدنا، وليعلم الله أننا ثبتنا، ثم يأتي جيل
بعد جيل حتى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى
أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا
اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103].
دخل الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة الحبس واقفاً في القيد فأراد
بعضهم أن يتنازل عن عقيدته؛ ولكنه أبى وصبر حتى انتصرت لا إله إلا الله،
وانتصر وعلم الله أنه صادق، وبقي مذهب أهل السنة والجماعة يسود، وسوف يبقى
ويكتسح العالم.
والبخاري ابتلاه أمير بخارى بفرية، فما كان من البخاري إلا أن التفت إلى
القبلة وهو راكب وقال: "اللهم اكفنيه بما شئت" فما رفع يديه وما وضعها إلا
وقد خنق السلطان مكانه إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا
يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ
سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].
وابتُلي مالك وجُلد، وسعيد بن المسيب شُهِّر في قميصٍ شفاف، وهو عابد في
الستين من عمره؛ ذرفت عينه اليمنى من كثرة البكاء، يقول: [[ما أذن المؤذن
من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد ]] ولكن أُخذ ورُكب على جمل، وهو سيد
التابعين، وعلاّمة الدنيا، وزاهد المعمورة، وعالم الحديث الذي حديثه
كالذهب، ركب على جمل فأخذ أطفال المدينة ، ومواليها وعبيدها يضحكون عليه
يطاف به وقد قلبوا وجهه إلى ظهر أو دبر البعير، ويجلدونه بالسياط وهو يقول:
حسبنا الله ونعم الوكيل.
هذا هو الطريق، والذي لا يعرف هذه سوف يصاب بصدمات يوم يأتيه الخبر في دينه
أو عرضه أو أهله أو أطفاله، ولذلك أكثر الناس انهزاماً الذين لا يعرفون
أخبار القرآن والسيرة والتاريخ الإسلامي، إنهم ينهارون تماماً، ولكن ليعد
العبد إلى التاريخ، وقبل ذلك إلى القرآن والسنة.
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
أيها المسلمون: إن من أفضل المعالم التي نعلمها يقيناً أن العاقبة للحق،
وأن الله لن ينصرك إلا بأعمالك، وأن الواسطات والشفاعات والدنيا إذا اجتمعت
وأنت على باطل فلن تنتصر أبداً، ولكن.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
وقل دائماً: حسبنا الله ونعم الوكيل، وتوكل على الحي الذي لا يموت، حينها ينصرك الله.
ويقول عليه الصلاة والسلام لـابن عباس : {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده
تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا
استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك
إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف } والله الذي لا إله
إلا هو، لو اجتمع أهل الأرض جميعاً على أن يكيدوك والله معك لن يكيدوك
شيئاً، وإن اجتمعوا على أن ينصروك والله ضدك لما فعلوا شيئاً في نصرك،
فالقوة التي لا تغلب قوة الله، وهذه أعظم الدروس: أن العبد يتخلى عن
الاعتماد على الناس أو على الكيانات أو على الجهات ولا يعتمد إلا على الله.
إظهار التوحيد في الابتلاء
ومن دروس الابتلاء العظيمة: صدق التوحيد وألا يعتمد إلا على الله، ويعرف من
جرب أن لا إله إلا الله لا تظهر حارةً صادقةً قويةً إلا يوم يبتلى العبد،
فيقول: لا إله إلا الله من قلبه.
ومن أعظم ميزات التوحيد: أنه يقف معك في الأزمات، يقول محمد بن عبد الوهاب
رحمه الله المجدد: "عامي موحد يغلب ألف مخلط" وهذا العامي هو الذي يحمل لا
إله إلا الله محمد رسول الله بصدق، فالتوحيد يظهر في الأزمات: مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ [البينة:5] أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]
والله لا يريد إلا أن يكون الدين له، فيقول لأوليائه: ذوقوا وجربوا واصبروا
واعلموا أنه لا ينصر إلا الله، ولا يهدي إلا الله، ولا يكافح ويناضل عن
الأبرار والأخيار والصالحين والعلماء والدعاة والعباد والصادقين إلا الله
فيقول: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا
يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3] فعلى كل حال
لابد أن تأخذوا من الابتلاءات في التاريخ درساً عظيماً في التوحيد
والإيمان، وأن تعرفوا أنه لا ينتصر العبد إلا بصدقه مع الله، وأن يكون
ظاهره كباطنه، وأن يقول كلمة الحق ولو قدم رأسه ودمه، ليعلم أنه صادق
ولينصره الله نصراً مؤكداً، هذه هي من القضايا التي ينبغي أن نعيشها، والله
له في خلقه أسرار وحكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
الابتلاء في الدين أعظم الابتلاءا
أما الابتلاءات غير ابتلاءات الدين فكلها سهلة هينة يذوقها الناس جميعاً،
والكفار يذوقون ابتلاءت المال والخسائر المالية، وموت الأطفال، والزوجات،
والإخوة، واحتراق البيوت، وهذا قدر مشترك بين المؤمن والكافر، ولو كان هذا
الابتلاء موت الأطفال أو انهدام واحتراق البيت أو ذهاب المال، فهذا أمر
مشترك فية الخواجة الكافر، والفلسفي الأحمر، واليهودي المجرم، وكذلك المسلم
لكن أما الابتلاء الصارخ في الدعوة، وتشويه السمعة، وتلطيخ واجهة الدين؛
فهذا لأولياء الله ليحتسبوا دعوتهم، وليخلصوا منهجهم لله؛ وليعلموا أنه لا
يكفيهم إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] قتل عثمان وسال دمه على هذه الآية ولا
زال المصحف موجوداً بشكل موجود على آية: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ
[البقرة:137] طوق المتمردون الثوار على بيت عثمان فقال: [[اللهم لا قوة لي
فأنتصر فانصرني ]] فدخلوا عليه وهو يقرأ قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ
[البقرة:137] فذبحوه، لكنه ما انتهى فقد بقي ذكره في الآخرين بالذكر الحسن،
فسمعته وتاريخه وذكره حسن، بل نحن نترضى عليه في كل جمعة وفي غالب
الصلوات، أما أعداء الله الذين سحقوا الدعوات فيلحقون باللعنة، أين فرعون
والنمرود وجمال وتيتو وأتاتورك والمغرضون؟ لعنوا ويوم القيامة يوردون إلى
النار، ويفضحون ويخزون، ويعرضون على النار؛ جزاءً لما قدموا في محاربة هذه
الدعوة.
أيها المسلمون: هذا درس في الابتلاء ولعل هناك من التساؤل أو من القصص، أو
من التعليق ما سأكمل به هذا الوقت، وأسأل الله عز وجل لي ولكم السداد
والثبات.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعلماء رسالة رسولك صلى الله عليه وسلم،
والصالحين من عبادك وأوليائك، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين،
اللهم من أرادنا والإسلام بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره في تدميره،
واخذله يا رب العالمين، اللهم اكشف أسراره، واهتك أستاره، وأبد عواره،
اللهم أخرس لسانه وأذهب عقله، ودمره تدميراً عظيماً، اللهم أرنا فيه عجائب
صنيعك يا رب العالمين، اللهم انتقم لأوليائك، وانتصر لأحبابك ودعاتك
ولعبادك الصالحين، اللهم ثبتنا على الحق، اللهم من نصر الدين فانصره ومكنه
في الأرض، واجعله يا رب العالمين هادياً مهدياً وتوله في الدارين، نسألك يا
رب العالمين أن تحمينا وأن تنصرنا وأن تحفظنا، وأن تهدينا سواءاً السبيل،
وأن تمنعنا من كل سيئ يريد بنا والإسلام والمسلمين سوءً، اللهم لا تدابير
لدينا ولا حيل، وإنما حسبنا الله ونعم الوكيل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل
عمران:173-174] اللهم ثبت واهد ولاة الأمر لما تحبه وترضاه، اللهم قيض لهم
البطانة الصالحة الناصحة التي تهديهم إلى الحق، اللهم انصرهم بالإسلام
وانصر بهم الإسلام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.......
وصية لمن ابتلي في دينه
السؤال: إن الإنسان قد يبتلى في دينه، فبماذا توصي من حصل له مثل هذا؟
الجواب: أولاً: الناس يبتلون على قدر إيمانهم، وقد صح عنه عليه الصلاة
والسلام أنه ذكر أن أكثر الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل
فالأمثل، وصح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: {مثل المؤمن كمثل الخامة من
الزرع، تفيئها الريح يمنة ويسرة، ومثل المنافق كالأرزة لا تزال قائمة حتى
يكون انجعافها مرةً واحدةً } ولذلك لا يبتلى المنافق في الغالب إلا بما
يبتلى به الكفار، أو ابتلاءً يشترك معه بقية الناس، فأوصي نفسي وأنفسكم أن
نتمنى العفو والعافية، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعافينا، فإذا وقع
الابتلاء عليك بأربعة أمور كما قال ابن القيم :
أولها: أن تحمد الله عز وجل أن أبقى عليك دينك، وأنك ما كفرت بالله، وأنك
ما خرجت عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقولون ولذلك إن عالماً من
علماء المسلمين حبس مع نصراني في بيت المقدس -أي: في سجن- فكان هذا
النصراني توجعه بطنه وعنده إسهال، فكان كلما أراد أن يقضي حاجته يأخذه معه،
فيقول العالم: الحمد لله رب العالمين، فقال الحارس: على ماذا تحمد الله؟!
على أن سلسلك في هذا الحبل ويسحبك هذا النصراني إلى الحمام، قال: أحمد الله
على أني مسلم ولست نصرانياً، أحمد الله على أن الدين بقي.
الثاني: كما يقول ابن القيم : إن الابتلاء سنة من سنن الله، وكما يقال في
المثل: في كل واد بنو سعد، وما من واحد إلا ابتلي، والله خلق الخلق
ليبتليهم، وليعرف الصادق من الكاذب.
الأمر الثالث: أنها أسهل من غيرها، وأنها أهون من أطم وأعم منها؛ فإن بعض الضربات تعمي، وأعمى العمى من يرتد عن دينه.
الرابع: أن في الأجر والمثوبة عند الله ما يسلي، فإن الأجور عنده سبحانه
كما قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157].
يقول عمر : [[والذي نفسي بيده! ما عليَّ على أي حالة أصبحت، إن كان على
الفقر لهو الصبر، وإن كان على الغنى لهو الشكر ]] وقالوا لـعمر بن عبد
العزيز : ماذا تتمنى؟ قال: [[أتمتع بمنازل القضاء والقدر ]] قال تعالى:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] فما أعظم الأجر
والمثوبة؛ فإن ما فات العبد، وما أصيب به من هم وغم وحزن وتعريض وتعنيف كله
في جانب أجره عند الله سهل.
ومن المنافع العظيمة في الابتلاء، وهي جزيلة: تمحيصهم من الذنوب والخطايا، ويصفيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا الابتلاء.
ومنها أيضاً: أن يُمكَّن الإيمان، ويكتب الإيمان في قلبه كما يقول سيد قطب
في كلام له يقول: "هذا الدين لا يأتيه كل من يريده" وهو كما يقول أحد
الدعاة العصريين: ليس زريبة بقر، فالدين ليس زريبة بقر يدخل فيه من يدخل
ويخرج من يخرج، والدين لا يأتيه إلا من هو صادق، لأن الجنة حُفت بالمكارة،
وحفت النار بالشهوات، فلا يأتي الدين إلا من هو صادق، أما الشهواني فلا
يريد الدين؛ ولذلك لا يبتلى؛ لأنه قد سقط في أول الطريق.
على ماذا يُبتلى الذي لا يصلي الفجر جماعة؟!
على ماذا يبتلى الذي لا يعرف بيت الله، ولا يعرف القرآن، ولا يتمنى
الشهادة، ولا يريد وجه الله؟!: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].. وَالَّذِينَ
كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ
وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] تماماً كالحيوانات، شهوات، وسهر،
وغناء، ومجون، وبطون، وفروج، ولكن لا ابتلاء؛ لأنهم رسبوا في أول الطريق،
ولا يزال الابتلاء بالعبد حتى يصل به مثاقيل الذر، وفي أثر: {يتمنى الناس
يوم القيامة أنهم قرضوا بالمقاريض يوم يرون المبتلين } وقال أبو الدرداء :
[[أول ما يدخل الجنة الحامدون الذين يحمدون الله في السراء والضراء ]].
ويقول سبحانه: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل
عمران:133-134].
فهذه من دروس الابتلاء، ومن ابُتلي عليه أن يكثر من قوله حسبنا الله ونعم
الوكيل، ومن ترداد: لا حول ولا قوة إلا بالله، يقول ابن تيمية وذكره ابن
القيم أيضاً في الوابل الصيب : "قال الله للملائكة: احملوا العرش، قالوا:
لا نستطيع يا رب، قال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قالوها حملوا
العرش"
ومنها: كثرة الاستغفار: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:250-251].
ومنها: التعلق بالقرآن والنوافل والدعاء، يقول ابن تيمية في المجلد الحادي
عشر لما جعلوا له المناظرة في الإسكندرية وهو في بيت قال: "فأعددت في الليل
من العبادة والدعاء ما ينبغي للمواجهة" وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] وقوة المؤمن أن يعد من الأذكار
والأدعية ما ينبغي للمواجهة.
موقف المسلم من الشائعات
السؤال: كيف يقف المسلم أمام الشائعات المغرضة التي تنتشر؟
الجواب: ذكر الله عز وجل لنا منهجاً في القرآن أمام هذه الأخبار، يقول
سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] فأمرنا
سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن نتبين الأخبار، ومن حملها وماذا يحف بها، وما هي
ملابساتها وما مقاصدها، ومن وراءها حتى نكون على بينة، قال سبحانه: وَلا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] لا تَقْفُ: أي: لا تتبع
ما لا تتأكد منه، وقيل أي: لا تنشر وقيل: أو لا تسأل عن شيء لا أصل له قال
تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ
عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وهذا منهج واضح، والله عز وجل يقول في
سورة النور في شأن الصحابة الذين أخطئوا، وليسوا بمعصومين يوم تلقوا خبر
الإفك قال سبحانه: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] يقول: لماذا تتحدثون عن هذه
الأخبار؟ أتشكون في الرسالة! أتشكون في الإسلام! أتشكون في القرآن! أتشكون
أن الابتلاء وارد! لماذا تعينون هؤلاء؟ لأنهم يريدون القضاء على الإسلام
وقد حققوا آمالهم بما يصبون إليه، وهو لا يريد منك صاحب الباطل وعدو
الإسلام أن تموت فقط، ولا يريد منك أن تكون خصماً له تضربه ويضربك، هذا
سهلٌ، لكن يريد أن يدمر دعوتك ورسالتك وإسلامك ومنهجك حتى ينتصر، فهذا هو
المقصود؛ فلذلك لامهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتى ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى
بعدها: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
والناس قسمان: من أحب هذا ونشره وأفشاه وأشاعه، وتلذذ بذكره واستعاده في
المجالس؛ ففي قلبه مرض وهو عدو للإسلام، وهو يريد أن تشيع الفاحشة، ويريد
أن يلطخ الدين والإسلام والقرآن والرسالة، والقسم الآخر من قال:
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16] وذَكَّره قلبه وقال: هذا
إفك مبين؛ حينها هو صادق مؤمن إن شاء الله.
أسباب انتشار الشائعات
السؤال: لماذا انتشرت الشائعة أكثر من الآية والحديث؟
الجواب: نعم. الآن كم تلقى من الدروس، وكم تلقى من المحاضرات، هل تنتشر كما تنتشر الشائعات؟ لا. وذلك لأسباب:
أولها: أن الحق ثابت والباطل شاذ، والشاذ تنكره العقول، وينكره كل شيء، والناس ينكرون الشاذ، فإذا أتى خبر شاذ كان له شائعة.
الأمر الثاني: أن إبليس يوزع أحفاده وأولياءه في الأرض، قال سبحانه: فَلا
تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] وله
خدمه من الأ