س1: إذا عُرِف
شخص لدى الناس بالاستقامة والنظافة والصلاح طوال
عمره، وفجأة ظهر من يتهمه بأبشع التهم من ال وعمل قوم لوط والقتل وغيرها.
فما حكم الشرع في المتّهِم والمتّهَم؟
ج1:
رمي البرآء بالتهم وخصوصاً التهم الكبيرة -مثل
الزنا واللواط وقتل النفس- يعتبر في نظر الإسلام من
المحرمات المقطوع بها، بل من كبائر الإثم، وعظائم
الذنوب، التي تستوجب مقت الله تعالى وعذابه ولعنته
في الدنيا والآخرة، وذلك لما فيه من عدوان على
حرمات المؤمنين والمؤمنات، وإساءة الظن بهم، وتجرئ
السفهاء عليهم، وإشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن،
ولذلك ذمّ القرآن هذا السلوك أبلغ الذمّ، وتوعد
مقترفيه بعذاب الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما
اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) (الأحزاب: 58)، وقال جلّ شأنه (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات
المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم *
يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا
يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن
الله هو الحق المبين).
وقد أجمع علماء الأمة على أن رمي المؤمنين مثل رمي
المؤمنات في الإثم والعقوبة، وإنما جاءت الآية
بهذه الصيغة لأن السياق جاء في الدفاع عن عائشة أم
المؤمنين، الصدِّيقة بنت الصدِّيق، أحب أزواج رسول
الله إليه بعد خديجة. هذه الطاهر البتول لاكت عرضها
ألسنة السوء، وأشاعوا عنها قالة السوء واتهموها
برجل من أصحاب رسول الله، لم يُعرف عنه ريبة قط،
ولكن المنافقين انتهزوها فرصة، وأشعلوا نار
الفتنة، وكانت قصة (حديث الإفك) الشهيرة، التي
أقلقت البيت النبوي، والبيت الصدِّيقي، والمدينة
كلها، حتى نزل قول القرآن من فوق سبع سماوات، يفصل
في القضية ويرد الأمور إلى نصابها، ويخرِس كل لسان
كذوب، ويبرئ الصدِّيقة الطاهرة من كل سوء، ويخرج
المسلمين من هذه المحنة القاسية المريرة.
اقرأ قول الله تعالى من سورة النور: (إن
الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم
بل هو خير لكم لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم
والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولا إذ
سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً
وقالوا هذا إفك مبين * لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء
فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون) (النور: 11 - 13).
هذا حكم الله القاطع: أن من اتهم إنساناً بفاحشة
الزنا فعليه أن يُثبت دعواه بأربعة شهداء عدول لا
مطعن فيهم، رأوا الرجل وهو يزني بالمرأة عياناً
بياناً، كما حددت النصوص الشرعية (كالميل في
المكحلة والقلم في الدواة) فإذا لم يأت بالشهداء
الأربعة على هذا الوجه المبيَّن، فذلك هو الكاذب
عند الله.
وهذا الكاذب عند الله له عقوبة شرعية، بل عقوبات
ثلاث، نص عليها جميعاً القرآن الكريم وذلك في قوله
تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا
تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون * إلا
الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
(النور: 4، 5).
ذكرت الآية الكريمة ثلاث عقوبات لهذه الجريمة
البشعة:
الأولى: عقوبة بدنية، وهي أن يُجلد ثمانين جلدة،
تؤذي بها بدنه كما آذى أنفس البرآء، ونغَّص عليهم
حياتهم، وأساء إليهم وإلى ذويهم.
والثانية: عقوبة أدبية اجتماعية، وهي إسقاط
اعتبارهم الأدبي والاجتماعي، فلا تُقبل لهم شهادة
في أي مجال من المجالات المالية أو المدنية أو
الاجتماعية أو السياسية، لأن كلمة "شهادة"
جاءت نكرة في سياق النفي فتشمل كل شهادة، ومن هنا
يجب حرمانه من حق التصويت في الانتخابات، لأنه نوع
من الشهادة، وبالتالي من باب أولى: حق الترشيح.
والثالثة: عقوبة دينية، وهي وصفه بالفسق، وإدخاله
في زمرة (الفاسقين). والقرآن الكريم جعل الفسق في
بعض الأحيان مقابل الإيمان، فقال تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون
* .. * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار..) (السجدة: 18،20).
ووصف القرآن الكريم شر الخلق إبليس -لعنه الله-
بالفسق، فقال: (كان من الجن ففسق عن أمر
ربه) (الكهف: 50).
ومن رحمة الله تعالى: أنه فتح باب التوبة لمن أراد
أن يتطهر ويغسل نفسه فقال تعالى (إلا
الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)،
وإن كان الإمام أبو حنيفة يرى أن التوبة تؤثر في
إسقاط العقوبة الأخيرة -وهي الوصف بالفسق- فقط، ولا
تؤثر في إسقاط الشهادة، لأنها موصوفة بالتأييد (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً)، هذا
ويزداد الجُرم عظماً إذا اتُّهم من عُرف بين الناس
بالاستقامة والصلاح، وأنهم لا يعلمون عنه إلا
خيراً، فإن ألسنة الخلق أقلام الحق، والعبرة
بشهادة الصالحين وأهل الخير فيهم "شهداء
الله في الأرض" كما قال الرسول صلى الله عليه
وسلم.
لقد شدد الإسلام في المحافظة على أعراض الناس
وحرماتهم وكراماتهم، ولم يُبِح لمسلم أن يتناول
مسلماً بكلمة سوء في حضرته أو في غيبته، وكما قال
الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا
ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه
ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (الحجرات: 12).
وفي الحديث الصحيح: "كل المسلم على
المسلم حرام: دمه وماله وعرضه".
ولو لم يفعل الإسلام ذلك، لتسلط الناس بعضهم على
بعض، وديست الكرامات، وانتُهِكت الحرمات، وضاعت
الحقوق والحريات.
من هنا كان أمر الإسلام بالستر، حفاظاً على الأعراض
والخصوصيات، وقال الرسول الكريم للرجل الذي دفع
ماعزاً إلى الاعتراف بالزنا حتى رُجم: "لو
أنك سترته بثوبك لكان خيراً لك" (رواه
أبو داوود والنسائي) وقال "كل
أمتي معافى إلا المجاهرين"، "من
ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة"
(متفق عليهما).
وقال صلى الله عليه وسلم من فوق منبره: "يا
معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا
تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع
عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله
عورته يفضحه ولو في جوف رحله" (رواه
الترمذي وابن حبان في صحيحه).
وقال الله جل شأنه في كتابه الكريم: (إن
الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم
عذاب أليم في الدنيا والآخرة..) (النور:
19)
يتبع