بمجرد الاستقرار الذي حصل للمسلمين بقيادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
في المدينة، وقيام المجتمع المسلم الجديد، كان لابد أن تنطلق الدعوة
الإسلامية إلى نشر التوحيد، وإخراج الناس من الضلالة إلى الهدى، فليست
الأمة الإسلامية جمعا من الناس تعيش بلا غاية، أو تسير في الحياة إلى أي
وجهة، كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدد صلتهم بالله، وتوجه سيرهم في
الحياة، وتنظم شئونهم في الداخل والخارج، وفي السلم والحرب ..
ومن ثم
أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه في إعداد العدة وتجهيز القوة
لمواجهة الكفر وأهله، وأراد المسلمون توجيه رسالة قوية إلى قريش من خلال
حصارها، وكذلك إشعار يهود المدينة ومنافقيها والأعراب بأن المسلمين
أقوياء، وأن فترة الاستضعاف السابقة قد أدبرت..
وكما هو معروف في فن
الحروب، أن الهجوم خير وسيلة للدفاع، وقريش مازالت مصممة على خوض المعركة
مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، للقضاء على المجتمع المسلم الجديد في
المدينة، فكان من حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أن جعل المبادرة في
الحرب والقتال منه، فكثر في السنة الأولى بعد قدومه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
إلى المدينة ، البدء بالهجوم على قريش في غزوات وسرايا، استمرت من رمضان
في السنة الأولى إلى رمضان في السنة الثانية، وكلها حدثت قبل غزوة بدر،
وكان من أهمها :
سرية سيف البحر
في رمضان من السنة الأولى، أمَّر
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه السرية حمزة ـ رضي الله عنه ـ،
وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين، يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشام،
وفيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر، فالتقوا واصطفوا للقتال،
فمشى مجدي بن عمرو الجهني ـ وكان حليفاً للفريقين جميعاً ـ بين هؤلاء
وهؤلاء حتى حجز بينهم ، فأطاعوه وانصرفوا ولم يقع بينهم قتال .
سرية عبيدة بن الحارث
في
شوال من السنة نفسها، سار عبيدة بن الحارث في ستين من المسلمين، فالتقى
بمائتي مشرك على رأسهم أبو سفيان ، ووقعت مناوشات بين الطرفين على ماء
بوادي رابغ، ورمى فيها سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ بسهم، فكان أول
سهم رمي به في الإسلام.
سرية الخرار
الخرار مكان قرب الجحفة، ففي ذي القعدة خرج سعد بن أبي وقاص في نحو عشرين رجلا، يعترض عيرا لقريش ففاتته.
غزوة الأبواء أو ودَّان
ودان
مكان بين مكة والمدينة، والأبواء موضع بالقرب منه، وهي أولى الغزوات التي
غزاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه ، وكان عدد المسلمين مائتين
بين راكب وراجل، ولم يقع قتال في هذه الغزوة ، بل تمت موادعة ومعاهدة بني
ضمرة (من كنانة)،وكان ذلك في صفر من السنة الثانية.
غزوة بُواط
وهو
جبل من جبال جهينة، ففي ربيع الأول من السنة نفسها، خرج رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ في هذه الغزوة في مائتين من أصحابه، وكان مقصده أن يعترض
عيرا لقريش كان فيها أمية بن خلف في مائة رجل، وألفين وخمسمائة بعير ففاتته
.
غزوة ذي العُشيرة
موضع بناحية ينبع، ففي جمادى خرج النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ إلى العشيرة، وأقام بها شهرا، ووادع فيها بني مدلج، ثم
رجع إلى المدينة ، ولم يلق كيدا..
ثم أغار كُرز بن جابر الفهري على
سرح المدينة (الإبل والأغنام) ، فنهب بعضها ، فخرج رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ في طلبه حتى بلغ واديا يقال له : سفوان من ناحية بدر، فلم
يدركه، فرجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة ، ويسمي
المؤرخون هذه (غزوة بدر الأولى) .
سرية عبد الله بن جحش ـ رضي الله عنه ـ إلى نخلة
وهي
موضع بين مكة والطائف، في رجب من السنة الثانية بعث رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ عبد الله بن جحش ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، إلى نخلة جنوب
مكة للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش، وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه
حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ولا يستكره أحدا من أصحابه، فسار عبد الله ثم
فتح الكتاب بعد يومين فإذا فيه : ( إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل
نخلة، فترصد بها قريش وتعلم لنا من أخبارها ) ، فقال عبد الله :" سمعا
وطاعة ".. وسار بأصحابه حتى نزل بنخلة ، لكنهم تعرضوا لقافلة لقريش فظفروا
بها وغنموها، وقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن
كيسان، وكان ذلك في آخر يوم من رجب الشهر الحرام .
وقد توقف النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الغنائم حتى نزل قول الله تعالى: {
يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (البقرة:217) .
لقد كان لكثرة السرايا والغزوات في مدة صغيرة قبل بدر، أهدافا وحكما كثيرة ينبغي الوقوف معها للاستفادة منها في واقعنا، ومنها :
أنها رفعت الروح المعنوية للمجاهدين بمنحهم أملا يقينيا بالنصر أو الجنة،
وفي ظل هذا الأمل وهذه الغاية، يبذل المسلم كل طاقاته النفسية والجسدية
والمالية، من أجل الانتصار في المعارك أو الموت في سبيل الله، ومن أقواله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ في حث أصحابه على الجهاد: ( ما أحد يدخل الجنة يحب
أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى
الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة ) ( البخاري ) .
وأوضحت
هذه الغزوات والسرايا، أهمية الاستطلاع العسكري، والإعداد للفتوحات
الإسلامية القادمة، فقد استطاع المسلمون التعرف على الطرق المحيطة بالمدينة
والمؤدية إلى مكة، كما استطاعوا التعرف على قبائل المنطقة ومعاهدة بعضها،
ومن ثم كانت الغزوات والسرايا مناورة حية لاكتساب المهارة القتالية،
وإعدادا للفتوحات الإسلامية القادمة .
وفي خضم أحداثها، نزلت الآيات
القرآنية للرد على قريش التي شنت حربا إعلامية ونفسية على المسلمين بقولها:
قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه
الأموال، وأسروا فيه الرجال .. فجاء الرد الرباني قاطعا لألسنة المشركين
الذين يتخذون الحرمات ستارا لجرائمهم وكفرهم، ففضحهم القرآن الكريم، وأبطل
احتجاجهم وأجاب على استنكارهم القتال في الشهر الحرام .
فالكفر بالله
والصد عن سبيل الله أكبر وأشد من القتال في الشهر الحرام، فأوضحت الآيات
القرآنية أن الشهر الحرام ـ وإن كان ـ لا يحل فيه القتال، لكن لا حرمة عند
الله لمن كفر بالله، وصد عن سبيله وهتك الحرمات، فنزل قول الله تعالى: {
يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَر } (البقرة: من الآية217) .
ومن الحكم الهامة في توجيه هذه الغزوات والسرايا على ذلك النحو المتتابع :
إشعار
مشركي المدينة ويهودها والمنافقين وأعراب البادية، بأن المسلمين
أقوياء،وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم، ذلك الضعف الذي مكن لقريش اضطهادهم
في دينهم ومصادرة حرياتهم، واغتصاب دورهم وأموالهم، ومن حق الدولة المسلمة
الجديدة أن تعتني وتفخر بهذه العمليات العسكرية على ضآلة شأنها، فإن
المتربصين بالإسلام كُثر، ولن يصدهم عن النيل منه إلا الخوف وحده، كما قال
تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ
لا تُظْلَمُونَ } (الأنفال:60) .
وعلى الجانب الآخر توجيه إنذار لقريش
التي حاربت الإسلام، ونكلت بالمسلمين بمكة، ولا زالت ماضية في غيها، فلا
تسمح لأحد من أهل مكة أن يدخل في دين الله، فأحب رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ أن يُشعر مكة وأهلها، أنه قد مضى ـ إلى غير عودة ـ ذلك العصر الذي
كانوا يعتدون فيه على المؤمنين، وهم بمأمن من القصاص، وفي ذلك سلاح ردع
للأعداء، وبسط لهيبة الدولة الإسلامية..
لقد كان من أهمية غزوات وسرايا
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أن سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ
كانوا يتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم ، فكان علي بن الحسين ـ رضي الله
عنه يقول : " كنا نُعلَّم مغازي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نعلم
السورة من القرآن ". .
وكان الزهري رحمه الله يقول : " علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة " .
وكان
إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ يقول: كان أبي
يعلمنا المغازي ويعدها علينا، ويقول: " يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها
".
كما أن تلك الغزوات والسرايا كانت تهيئة للمسلمين، وإعدادا وتمهيداً
مهماً لغزوة بدر الكبرى.. كان لها الأثر البالغ على العصبة المؤمنة، حيث
زادتهم يقيناً بنصر الله، وثباتاً على الحق، واعتقاداً بأن العاقبة
للمتقين، كيف لا، وقد بشرهم الله تعالى بذلك فقال: {وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ } (النور:55) ، وقال: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }(الحج: من الآية40) ..