أس
الوصية
*
يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13
*
لم
يبدأ بالعبادة ولم يقل له اعبد الله وإنما بدأ بالنهي عن الشرك، وذلك لما يلي:
أولا
: التوحيد أس الأمور، ولا تقبل عبادة مع الشرك، فالتوحيد أهم
شيء.
ثانيا:
العبادة تلي التوحيد وعدم الشرك فهي أخص منه.
التوحيد
تعلمه الصغير والكبير، فالمعتقدات تُتعلم في الصغر وما تعلم في الصغر فمن الصعب
فيما بعد أن تجتثه من نفسه ، ولن يترك ما تعلمه حتى لو كان أستاذا جامعيا في أرقى
الجامعات، هذا ما شهدناه وعايناه بأنفسنا فهذا الأمر يكون للصغير والكبير ، تعلمه
لابنك وهو صغير، ويحتاجه وهو كبير، أما العبادة فتكون بعد
التكليف.
ثالثا
:
أمر آخر أنه أيسر، فالأمر بعدم الشرك *أي بالتوحيد* هو أيسر من التكليف بالعبادة،
العبادة ثقيلة ولذلك نرى كثيرا من الناس موحدين ولكنهم يقصرون بالعبادة، فبدأ بما
هو أعم وأيسر؛ أعم لأنه يشمل الصغير والكبير، وأيسر في الأداء
والتكليف.
ثم
قال * إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ13 *
لماذا
اختار الظلم؟ لماذا لم يختر : إثم عظيم، ولماذا لم يقل كبير؟
لو
تقدم شخصان إلى وظيفة أحدهما يعلم أمر الوظيفة ودقائقها وأمورها وحدودها، ويعبر عن
ذلك بأسلوب واضح سهل بين، والثاني تقدم معه ولكنه لا يعلم شيئا ولا يحسنها وهو فيه
عبء، وعنده قصور فهم وإدراك، فإن سوينا بينهما أفليس ذلك ظلما؟
ولو
تقدم اثنان للدراسات العليا وأحدهما يعرف الأمور بدقة ويجيب على كل شيء، وله أسلوب
فصيح بليغ لطيف، وآخر لا يعلم شيئا ولا يفقه شيئا ولم يجب عن سؤال ولا يحسن أن يبين
عن نفسه، فإن سويت بينهما أفليس ذلك ظلما؟
والفرق
بين الله وبين المعبود الآخر أكبر بكثير، ليست هناك نسبة بين الخالق والمخلوق، بين
مولي النعمة ومن ليس له نعمة، فإن كان ذاك الظلم لا نرضى به في حياتنا اليومية فكيف
نرضى فيما هو أعظم منه فهذا إذن ظلم، وهو ظلم عظيم
والإنسان
المشرك يحط من قدر نفسه لأن الآلهة التي يعبدها تكون أحط منه، وقصارى الأمر أن
تكون مثله، فهو يعبد من هو أدنى منه، أو بمنزلته، فهذا حط وظلم للنفس بالحط من
قدرها، إنه ظلم لأنه يورد نفسه موارد التهلكة ويخلدها في النار وهذا ظلم
عظيم.
وأمر
آخر أن الإنسان بطبيعته يكره الظلم، قد يرتضيه لنفسه لكن لا يرضى أن يقع عليه ظلم ،
فاختار الأمر الذي تكرهه نفوس البشر *الظلم* وإن كان المرء بنفسه
ظالما.
وفي
هذا القول تعليل، فهو لم يقل له: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ وسكت، وإنما علل له، وهذا
توجيه للآباء أن يعللوا لا أن يقتصروا على الأوامر والنواهي بلا تعليل، لا بد من
ذكر السبب حتى يفهم لماذا، لا بد أن يعرف حتى يقتنع فهو بهذه النهاية * إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ13* أفادنا أمورا كثيرة في التوجيه والنصح والتعليم
والتربية.
عظم
حق الوالدين
*
وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ
وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ
الْمَصِيرُ14
*
*ووصينا*
من قائلها؟ هذه ليست وصية لقمان، هذا كلام الله ، لقمان لم ينه وصيته، هذه مداخلة،
وستتواصل الوصية فيما بعد .قبل أن يتم الوصية قال الله * وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ * ، ولم يدع لقمان يتم الوصية، بل تدخل سبحانه بهذا الكلام ، وذلك
لأسباب:
أولا
:
أمر الوالدين أمر عظيم، والوصية بهما كذلك، فالله تعالى هو الذي تولى هذا الأمر،
ولم يترك لقمان يوصي ابنه به، فلما كان شأن الوالدين عظيما تولى ربنا تعالى أمرهما،
لعظم منزلتهما عند الله تعالى.
ثانيا
:
لو ترك لقمان يوصي ابنه يا بني أطع والديك لكان الأمر مختلفا. لأننا عادة في النصح
والتوجيه ننظر للشخص الناصح هل له في هذا النصح نفع؟ فإن نصحك شخص ما فأنت تنظر هل
في هذا النصح نفع يعود على الناصح؟ فإن كان فيه نفع يعود على الناصح فأنت تتريث
وتفكر وتقول: قد يكون نصحني لأمر في نفسه، قد ينفعه، لو لم ينفعه لم ينصحني هذه
النصيحة. لو ترك الله تعالى لقمان يوصي ابنه لكان ممكنا أن يظن الولد أن الوالد
ينصحه بهذا لينتفع به، ولكن انتفت المنفعة هنا فالموصي هو الله وليست له فيه
مصلحة.
وقال:
* ووصينا*، ولم يقل: وأوصينا
والله
تعالى يقول *وصّى* بالتشديد إذا كان أمر الوصية شديداً ومهماً، لذلك يستعمل وصى
في أمور الدين، وفي الأمور المعنوية: *"وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132" البقرة * *"وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ 131"
النساء*
أما
*أوصى* فيستعملها الله تعالى في الأمور المادية : "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ" النساء
لم
ترد في القرآن أوصى في أمور الدين إلا في مكان واحد اقترنت بالأمور المادية وهو قول
السيد المسيح : "وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي
بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً 31" مريم
في
غير هذه الآية لم ترد أوصى في أمور الدين، أما في هذا الموضع الوحيد فقد اقترنت
الصلاة بالأمور المادية وقد قالها السيد المسيح في المهد وهو غير مكلف
أصلا.
قال
وصّى وأسند الوصية إلى ضمير التعظيم *ووصينا* والله تعالى ينسب الأمور إلى نفسه في
الأمور المهمة وأمور الخير
ولم يقل بأبويه بل اختار بوالديه
الوالدان
مثنى الوالد والوالدة، وهو تغليب للمذكر كعادة العرب في التغليب إذ يغلبون المذكر
كالشمس والقمر يقولون عنهما *القمران*.
والأبوان
هما الأب والأم ولكنه أيضا بتغليب المذكر ولو غلب الوالدة لقال الوالدتين، فسواء
قال بأبويه أو بوالديه فهو تغليب للمذكر، ولكن لماذا اختار الوالدين ولم يقل
الأبوين؟
لو
نظرنا إلى الآية لوجدناه يذكر الأم لا الأب: *حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ *
فذكر
أولا الحمل والفطام من الرضاع *وفصاله* ولم يذكر الأب أصلا ذكر ما يتعلق بالأم
*الحمل والفصال* وبينهما الولادة والوالدان من الولادة، والولادة تقوم بها
الأم.إذن:
أولا
*المناسبة* فعندما ذكر الحمل والفصال ناسب ذكر الولادة.
ثانيا:
ذكره بالولادة وهو عاجز ضعيف، ولولا والداه لهلك فذكره به.
ثالثا
إشارة إلى انه ينبغي الإحسان إلى الأم أكثر من الأب، ومصاحبة الأم أكثر من الأب،
لأن الولادة من شأن الأم وليست من شأن الأب.
لذلك
فعندما قال *بوالديه* ذكر ما يتعلق في الأصل بالأم، ولذلك فهذه الناحية تقول :
ينبغي الإحسان إلى الوالدة قبل الأب وأكثر من الأب. ولذلك لا تجد في القرآن الكريم
البر أو الدعاء أو التوصية إلا بذكر الوالدين لا
الأبوين
أمثلة
:
"وَقَضَى
رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً 23"
الإسراء
"
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً
36" النساء
"
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً 151" الأنعام وكذلك البر والدعاء
والإحسان
.
"رَبَّنَا
اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ 41"
إبراهيم
"
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
تَبَاراً 28"
نوح
"وَوَصَّيْنَا
الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً 8" العنكبوت
.
"
وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً 15"
الأحقاف
.
لم
يرد استعمال *الأبوين* إلا مرة في المواريث، حيث نصيب الأب أكثر من نصيب الأم، أو
التساوي في الأنصبة. لكن في البر والتوصية والدعاء لم يأت إلا بلفظ الوالدين
إلماحا إلى أن نصيب الأم ينبغي أن يكون أكثر من نصيب الأب.
كما
ان لفظ *الأبوان* قد يأتي للجدين : "وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ
يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
6" يوسف
ويأتي
لآدم وحواء: "يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ
أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ 27" الأعراف
فاختيار
الوالدين له دلالات مهمة.
ثم
هو هنا لم يأت بالأب أصلا بل قال * حملته أمه وهنا ..* ولم يرد ذكر للأب أبدا، لذلك
كان اختيار الوالدين انسب من كل ناحية.
قد
تقول إن هذا الأمر تخلف في قصة سيدنا يوسف عندما قال: "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى
الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100" يوسف فاختار الأبوين. الجواب: لم يتخلف هذا
الأمر، فعندما قال رفع أبويه لم يتخلف وإنما هو على الخط نفسه، وذلك لما يلي:
أولا
:
في قصة يوسف لم يرد ذكر لأم مطلقا ورد ذكر الأب فهو الحزين وهو الذي ذهب بصره ..
الخ ولم يرد ذكر للام أصلا في قصة يوسف.
ثانيا
:
في هذا الاختيار أيضا تكريم للأم لأنه قال: "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ
وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100" فالعادة أن يكرم الابن أبويه ، ليس أن يكرم الأبوان
الابن ولكن هنا هم خروا له سجدا فالتكريم هنا حصل بالعكس من الأبوين للابن ولذلك
جاء بلفظ الأبوين لا الوالدين إكراما للام فلم يقل: ورفع والديه
وفيها
إلماح آخر أن العرش ينبغي أن يكون للرجال .
فلما
قال أبويه هنا ففيه تكريم للأم، ويلمح أن لعرش ينبغي أن يكون للرجال ، ويناسب ما
ذكر عن الأب إذ القصة كلها مع الأب، فهو الأنسب من كل ناحية
وهنا
قد يرد سؤال: إن الأم هي التي تتأثر وتتألم أكثر وتحزن فلماذا لم يرد ذكرها هنا؟
ألم تكن بمنزلة أبيه في اللوعة والحسرة؟
لا
.. المسألة أمر آخر ، أم يوسف ليست أم بقية الإخوة ، هي أم يوسف وأخيه فقط ، ولذلك
فيكون كلامها حساسا مع إخوته ، أما يعقوب عليه السلام فهو أبوهم جميعا ، فإذا
عاتبهم أو كلمهم فهو أبوهم ، أما الأم فليست أمهم ، فإذا تكلمت ففي الأمر حساسية ،
وهذا من حسن تقديرها للأمور فكتمت ما في نفسها وأخفت لوعتها حتى لا تثير هذه
الحساسية في نفوسهم وهذا من حسن التقدير والأدب، فلننظر كيف يختار القرآن التعبيرات
في مكانها ويعلمنا كيف نربي ونتكلم مع أبنائنا.