أشهد أن محمدا رسول الله :
و الآن ننتقل إلى النصف الثاني من الشهادتين و هو أشهد أن محمدا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فنقول و بالله التوفيق :
في النصف الأول من الشهادتين أوضحنا معنى أشهد بأنه أعلم بيقين عن أمر معين . لذلك لا داعي للتكرار .
ننتقل لمعنى محمد و من هو صلى الله عليه وسلم . محمد معناه الذي يحمد كثيرا
على ذاته و صفاته و أفعاله. وهي صيغة مبالغة . و هو أيضا أحمد كما قال
تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه الصلاة و السلام ( ومبشرا برسول يأتي من
بعدي اسمه أحمد ) فهو أحمد لأنه أحمد خلق الله لله . وهو أيضا محمود حين
يقف الخلق انتظارا للحساب فيشفع لهم حين يقول كل الأنبياء: نفسي نفسي ،
فيكون محمودا منهم .
أما نسبه صلى الله عليه و سلم ، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن
هاشم القرشي العربي . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( إن الله قسم
الخلق قسمين ، فجعلني من خيرهم قسما ؛ فذلك قوله : أصحاب اليمين ، وأصحاب
الشمال ثم جعل القسمين أثلاثا ؛ فجعلني في خيرها ثلثا ، و ذلك قوله تعالى :
و أصحاب الميمنة ، و أصحاب المشأمة ، و السابقون السابقون ، فأنا من
السابقين ، و أنا خير السابقين ، ثم جعل الأثلاث قبائل ؛ فجعلني من خيرها
قبيلة ، و ذلك قوله تعالى : و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم
عند الله أتقاكم . فأنا أتقى ولد آدم ، و أكرمهم على الله و لا فخر . ثم
جعل القبائل بيوتا ، فجعلني من خيرها بيتا فذلك قوله تعالى ( إنما يريد
الله لذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا ). هذا الحديث أخرجه
البيهقي في دلائل النبوة .
و أخرج الترمذي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إن الله
اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل و اصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، و اصطفى
من بني كنانة قريشا ، و اصطفى من قريش بني هاشم ، و اصطفاني من بني هاشم . )
لذلك فهو المصطفى بن المصطفين . و أيضا أخرج الإمام الترمذي ( أنا أكرم
ولد آدم على ربي و لا فخر ) . هذا بعض القليل الذي يمكن قوله عن محمد صلى
الله عليه و سلم .
ننتقل بعد ذلك لمفهوم رسول الله . فمن هو رسول الله ؟ و من هو نبي الله ؟ و ما هو الوحي ؟
إن الحق جل وعلا كان في سابق مشيئته أن يرسل لبنى آدم بعد هبوطهم إلى الأرض
رسالات الهدى و بيانات الحق (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى
) و ذلك الهدى تعددت طرقه ، وأشهرها و محل حديثنا الآن ذاك الهدى الذي جاء
على لسان النبيين والمرسلين .
فكلمة النبوة مأخوذة من معنى النبأ أي الخبر . فالنبي هو الذي يأتيه الخبر وحيا بأمر من الله . فالنبوة أمر بين العبد و بين الله .
من جاءه الوحي من رب العالمين عن طريق الوحي بالأنباء و الأحكام فهو نبي .
أما كلمة الرسالة فتشير إلى تكليف الله أحد عباده بإبلاغ الناس أمرا
تشريعيا أو حكما أو خبرا .
فالرسالة صفة بين العباد – أي الأنبياء و الرسل – و بين الناس . و النبوة صفة بين النبي و بين الله .
فالنبي أو الرسول إذا نظرت إليه من حيث علاقته بالله تقول هو نبي ، وإذا
نظرت إليه من حيث علاقته بالناس تقول هو رسول . لذا فالنبوة أشرف من
الرسالة لأنها تتعلق بعلاقة النبي بالله جل و علا . فالنبي هو من يأتيه
النبأ وحيا عن طريق الملك من الله سبحانه و تعالى بالأحكام والتشريعات ،
وإما أن يكلف بإبلاغها إلي الناس فيكون نبيا و رسولا ، وإما أن يكتفي له
بالعلم بها فيكون نبيا فقط .
والوحي طبقات ، فكلمة الوحي في ديننا الحنيف عديدة الاستعمال . قصد الله
تعالى أن يذكرها في القرآن بمعان عديدة . فبين أن من معاني الوحي أن يبث
الله عز وعلا نظاما ما في حياة النبات أو الجماد أو في حياة أي شئ على
الإطلاق . فيكون ذلك الذي نسميه النظام الغريزي أو النظام العام .
كأن جعل الله تعالى الشمس تدور في مدار وتدور حولها الأرض و سائر كواكب
المجموعة الشمسية . فهذا نظام هو في تعبير الحق جل وعلا في القرآن وحي .
بمعنى أنه فطر الأرض و سائر كواكب المجموعة الشمسية و تلك السماوات على
نظام محدد كما في قوله تعالى ( و أوحى في كل سماء أمرها) ثم بين أن هذا
الوحي قد يكون متعلقا بحياة كائن أي بنظامه الغريزي . فتجد الكلاب كلابا
على مر الزمان في أخلاقها و عاداتها و أفعالها . و القطط قططا و الأفيال
أفيالا لا يغيرون نظام الحياة عندهم أبدا لأن الله تعالى وضع لهم نظاما
يسيرون عليه يسميه العلم الحديث الغريزة لا يخرجون من نطاقها . و هذا أيضا
نوع من الوحي بنص القرآن كما في قوله تعالى ( و أوحى ربك إلى النحل أن
اتخذي من الجبال بيوتا و من الشجر و مما يعرشون )
أولا حدد لها أين تسكن و أنها لا تسكن مجرد إقامة مبيت وإنما تبني بيتا محكما ، أي نظام البيات .
( فاسلكي سبل ربك ذللا ) تبدأ تأخذ نظاما في اختيار ما تأكل و تأخذ سبلا
معينه في الحصول على الطعام و يتفاعل ذلك داخلها من حيث لا تقصد هي و لا
تملك أن تغير ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) فهذا
وحي تنظيمي في حياة هذا النحل و كل حيوان و كل نبات وكل شيء ( و إن من شيء
إلا يسبح بحمده ) أي كل شيء حي .. إذ لو لم يكن كل شيء حيا فكيف يسبح بحمده
؟ حجرا كان أم ترابا أم ماءا أم ما تشاء أم ذرة تسبح بدوران الإلكترونات
حول النواة .
وهناك مستوى ثالث من الوحي يذكره الله تعالى في كتابه المبين و هو الإلهام الذي يلقي به إلى عباده .
التوجيه الذي يشرح الله به صدور العباد فيخرجهم من الظلمات إلى النور ..
التوجيه الذي يسيرهم إلى فعل و يجعلهم ينفرون من فعل آخر .. وأنت حين
تستخير الله في أمر من الأمور فتصلي صلاة الاستخارة أو تنظر في كتاب الله
مستدلا على مراده أو بصورة من صور الاستخارة الأخرى المعلومة عند أهل الدين
تكون في حال تلقي لهذا التوجيه. فبصلاة الاستخارة تقول إذا كان هذا الأمر
خيرا لي فيسره لي و يسرني له ، و إذا كان شرا فاصرفني عنه و اصرفه عني . أي
يوجهك إلى فعل ما من حيث لا تدري . هذا المعنى موجود في قوله تعالى عن
هداية الناس ( و إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي و برسولي )
أوحى إلى الحواريين ليس وحي النبوة و إنما هو وحي الإلهام و التوجيه . ومنه وحي الرؤى أيضا.
كل هذه الأنواع ليست الوحي النبوي الخاص بالأنبياء .
الوحي الخاص بالأنبياء هو إرسال الملك برسالة إلى النبي بخبر يقين معلوم ،
مشافهة من ملك إلى نبي ( و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء
حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) و هي حالة تنزل الملك جبريل عليه
السلام الموكل بهذا الأمر على النبي يبلغه مرادات الله عز و جل . فهذا
معنى الوحي بالنسبة للنبوة . و قضية الوحي أهم كثيرا مما تظنون . و هي في
أيامنا هذه من أهم ما يكون على الإطلاق ، لأن أعداء الحق كلهم يتكاتفون على
مهاجمة قضية الوحي ، ومن خلالها قضية السنة و السيرة ، وهذا فساد ينبغي
على المسلم أن ينتبه إليه. لأنه إذا خرج الوحي من عقيدة المؤمن فلا إيمان و
لا دين . لأنه إن لم يكن ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وحيا من الله
، فلا يتوجب عليك الالتزام به و لا تنفيذه مهما قيل أن محمدا صلى الله
عليه و سلم أعظم رجال العالم على الإطلاق ما دام ما أتى به اجتهادا منه
وليس وحيا من الله . ففكر الإنسان يصيب و يخطئ .
كل هذا لزعزعة إيماننا بالسنة و السيرة ، وبأنه ( ما ينطق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحي ) وبأن تميزه الذي ذكره الله تعالى ( إنما أنا بشر مثلكم
يوحي إلي ) وبأن أقواله و أفعاله جزء من تعاليم الله لنا و تشريعه لنا (
ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا ) فإذا اهتزت قضية الوحي ضاع
الأمر كله .
إذا، النبي هو الذي يأتيه الخبر بوحي بملك من السماء . خبر و أنباء بحكم أو
تشريع . إذا أمر بإبلاغه إلى الناس فهو مرسل أيضا ، و إذا لم يؤمر فهو نبي
فقط .