( الخطبة الأولى )]
=-=-=-=
الحمد لله الذي شرح صدور المؤمنين بنور الإيمان وحببه إليهم ، وكرَّه إليهم
الكفر والفسوق والعصيان ، أحمده جل جلاله على ما أكرمنا به من الفضل والإحسان ،
وما تفضل به علينا من الأمن والإيمان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير .
وأشهد أن نبينا ورسولنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، الذي آخى
بين المؤمنين ، واجتهد في التأليف بين قلوب المسلمين ، فوحد الله به الصفوف ،
وجمع به الكلمة ، وأعزَّ به الدين ، وعلى آله الأخيار ، وصحابته الأطهار ، أما
بعد :
فيا عباد الله ، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ، فإن الله تعالى يقول : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ
إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ( آل عمران : 102 ) .
وهو القائل جل في عُلاه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ( الحشر : 18 ) .
واعلموا - بارك الله فيكم - أننا قد ودَّعنا قبل أيامٍ قليلةٍ شهرًا كريمًا ،
وموسمًا عظيمًا من مواسم الخير والبركة ، أكرمنا الله تعالى فيه بصيام أيامه ،
وقيام ما تيسّر من لياليه ، وشرّفنا فيه بالكثير من أنواع الطاعات والعبادات
القولية والفعلية ؛ فهناك من أقبل على تلاوة القرآن الكريم صباح مساء ، وهناك
من أكثر من الذكر والدعاء ، وهناك من بذل الصدقات بجودٍ وسخاء .
إخوة الإيمان : إن شهر رمضان المبارك قد انقضى ، وانتهت أيامه ، وتصرمت لياليه
، وقد ارتحل عنا ، وطويت صحائفه مُحملةً بأعمال العباد ، فمنهم الرابح ومنهم
غير ذلك ، ومنهم من اغتنم أيامه ولياليه في التقرب إلى الله تعالى بما يستطيع ،
ومنهم من كان مُقصرًا ومُسرفًا على نفسه ، ومنهم من جمع بين الصالح وغير الصالح
من القول والعمل والنية ، وهكذا تتفاوت المستويات بين الناس فيما حصلوه من
الأجر والثواب ، وما غنموه من هذا الموسم الرباني العظيم الذي تُفتح فيه أبواب
الجنات ، وتنزل الرحمات ، وتُضاعف الحسنات ، وتُرفع الدرجات ، وتُجاب الدعوات ،
وتُقال العثرات ، وتُمحى الخطايا والسيئات ؛ فاللهم اكتبنا فيه من الفائزين ،
واجعلنا من المقبولين ، و اعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأُمهاتنا من النار يا رب
العالمين .
عباد الله ، إن شهر الصيام قد انقضى ؛ إلا أن زمن العمل الصالح والنية الصالحة
لا ينتهي ، وهذا يعني أن على الإنسان المسلم ذكرًا كان أو أُنثى ، صغيرًا كان
أو كبيرًا ، عالمًا أو مُتعلمًا ، أن يجتهد بعد شهر رمضان في طاعة الله تعالى ،
والتقرب إليه سبحانه في كل شأنٍ من شؤون حياته ، وكل جزئيةٍ من جزئياتها كما
كان يجتهد لذلك في شهر رمضان ، لأن رب الشهور واحد سبحانه ، ولأنه ( جل في
عُلاه ) هو الذي فرض الطاعات وشرعها للعباد ، وهو الذي حث على الإتيان بها
والمحافظة عليها في شهر رمضان وفي غيره من الشهور ، وهو الذي مع ذلك كله لا
يُضيع أجر المُحسنين .
أيها المسلمون : ولئن كان فضل رمضان قد ولى وفاز به من فاز من العباد؛ فإن فضل
الله تعالى وكرمه لا يزال باقيًا ومُستمرًا إلى قيام الساعة ، وهو سبحانه يؤتيه
من يشاء من عباده ، ويوفق إليه من يُحب ويختار ، وخير دليلٍ على ذلك أنه سبحانه
وتعالى قد شرع لنا من الطاعات ما يُقربنا إليه ويُكسبنا ثوابه ويُبلغُنا
الدرجات العلا من الجنة ؛ فقد شُرع لنا صيام التطوع في غير شهر رمضان ، لما
صحَّ عند الإمام مُسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال :قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم :
" من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر " .
وجاء الحث على صوم ثلاثة أيامٍ من كل شهر ، وصيام يومي الاثنين والخميس من كل
أسبوع ، وصيام عشر ذي الحجة ، ومنها صيام يوم عرفة ، والصيام في شهر الله
المُحرم كيوم عاشوراء ويومٍ قبله أو بعده ، وغير ذلك من الأيام على مدار العام
.
كما أن تعاليم ديننا الحنيف جاءت مُرغبةً في المحافظة على قيام الليل بالصلاة
وبيان فضل ذلك عند الله تعالى ، فعند النسائي أن حميد بن عبد الرحمن قال : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل " .
وجاء في مسند الإمام أحمد أن أُم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) قالت لسائلٍ
سألها :
" لا تدع قيام الليل ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه وكان إذا مرض أو كسل صلى
قاعدًا " .
وهناك عبادة أُخرى تتمثل في الإكثار من الصدقات ولو بالقليل ، وتفقد أحوال
الفقراء من الناس ، والإحسان إلى المحتاجين منهم ولو بالشيء اليسير ، وهي من
أفضل الطاعات والقُربات إلى الله تعالى الذي قال في كتابه العظيم : { إِنَّ
اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }( يوسف : من الآية 88 ) . والتي صحّ عن
سعيد بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في فضلها :
" من تصدق بصدقةٍ من كسبٍ طيبٍ ، ولا يقبل الله إلا طيبًا ، كان إنما يضعها في
كف الرحمن ، يُربيها كما يُربِّي أحدكم فلُوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل " .
( رواه مالك في الموطأ ) .
كما أن ذكر الله تعالى ( تسبيحًا ، وتهليلاً ، وتكبيرًا ، واستغفارًا ، وحمدًا
، وشُكرًا ، إلى غير ذلك ) ، يُعد من الطاعات التي لا ينبغي للمُسلم أن يغفل
عنها في أي وقتٍ من الليل أو النهار ، وأن يحرص على إشغال نفسه بها في السر
والعلن ، وأن يجتهد في المحافظة عليها في كل شأنٍ من شؤون حياته ، وتعويد
اللسان على الإتيان بها دائمًا لما في ذلك من تعظيم شأن الله تعالى ، وإشغال
الجوارح بما فيه الفلاح والصلاح والنجاح ، ولذلك قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ( الأحزاب : 42 ) .
كما أنه جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل ، أنه قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " .
وليس هذا فحسب ، فكل عملٍ أو قولٍ أو نيةٍ صالحة ؛ إنما هي من أعمال البر
والإحسان والطاعات والقُربات التي يتقبلها الله تعالى من العباد ، ويُكافئ
عليها بعظيم الأجر وجزيل الثواب متى توافر فيها شرطان أساسيان هما :
( أولاً ) أن تكون خالصةً لله سبحانه ، ولا يبتغى بها صاحبها إلا وجهه الكريم
جل في عُلاه .
( ثانيًا ) أن تكون موافقةً لما جاء به منهج الدين الإسلامي الحنيف ، وهدي
الرسول الكريم محمدٍ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وغير مخالفةً له أو مُتعارضةً مع سنته
المُطهرة .
فيا عباد الله تذّكروا ( بارك الله فيكم ) أن طُرق الخير كثيرة ، وأن سُبل
الفلاح مُيسرّة ، وأن أبواب الجنة ثـمانية ، وأن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء ،
وأنه - جل جلاله - يقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ربه سبحانه أنه قال :
" يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ؛ فمن وجد خيرًا
فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " ( رواه مسلم في صحيحه ) .
= فيا من عرفت في شهر رمضان أن لك ربًا لطيفًا بعباده ، كيف نسيت ذلك بعد رمضان
؟
= ويا من حافظت على أداء الصلوات جماعةً في المساجد ، كيف تجاهلت ذلك بعد رحيل
رمضان ؟
= ويا من تركت المعاصي وهجرت الخطايا في شهر رمضان ، كيف تعود إليها بعد رمضان
؟
= ويا من تصدقت وبذلت ، وأطعمت وأسقيت في شهر رمضان ، كيف تغفل عن ذلك بعد
نهاية رمضان ؟
= ويا من حافظت على تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان ، كيف تركت ذلك الخير
عندما انتهى رمضان ؟
= ويا من وفقت إلى الصيام والقيام والدعاء والذكر في شهر رمضان ، كيف تُضيِّع
ذلك كله وتتناساه بعد رمضان ؟
عباد الله : إن من الخُسران المبين أن يودع بعض الناس تلك الأعمال الصالحة بعد
نهاية شهر رمضان ، وإن من الفهم الخاطئ لشعائر الإسلام أن يكون العمل بالطاعات
في مواسم معينة ، وأن يكون الإقبال على العبادات محصورًا في أوقاتٍ مُحددة ،
وهذا أمرٌ مخالف لتعاليم الدين ، ولا يتفق مع هدي سيد المرسلين عليه أفضل
الصلاة وأتم التسليم .
وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل والنية ، وأقول قولي هذا ، وأستغفر الله
العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمُسلمات من كل ذنبٍ وخطيئة ؛
فاستغفروه وتوبوا إليه ، إنه هو الغفور الرحيم .
=-=-=
الخُطبة الثانية
=-=-=
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ
وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
أَجْراً حَسَناً } . وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الذي أرسله
بالهُدى ودين الحق صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله الأخيار وصحابته الأطهار ، وبعد ؛
فنحن في هذه الأيام نستعد لتوديعٍ واستقبال ، فأما التوديع فهو للإجازةٍ
الصيفية التي تمتع بها كثيرٌ من الناس ، وأما الاستقبال فلعامٍ دراسيٍ جديدٍ
نسأل الله أن يكتب لنا جميعًا فيه التوفيق والسدّاد و الهداية والرشاد .
معاشر المسلمين ، إن من الواجب على كل فردٍ منا في هذه الأيام أن يُراجع نفسه ،
وأن يُخضعها للمحاسبة الذاتية ؛ كأن يتساءل كيف انقضت هذه الإجازة ؟
وما حاله وحال أهله خلال هذه الإجازة ؟
وكيف مرت به أيامها ولياليها ؟
وفي أي شيءٍ صرف أوقاتها ؟
وما هي ثـمراتها له ولأهله ؟
وما أبرز نتائجها ؟
وهل كانت في مرضاة الله تعالى أم في غير ذلك ؟
إلى غير ذلك من الأسئلة التي يمكن له من خلالها معرفةً حقيقة الإجازة وطبيعة
حياته فيها .
وفي الوقت نفسه يجب أن يقف الإنسان مع نفسه وقفةً صادقة يتساءل خلالها عن مدى
استعداده للفترة القادمة من حياته ، كأن يعرف ماذا أعد لها ؟
وكيف سيكون استعداده لخوض غمارها ؟
وهل لديه النية والعزيمة على أن يكون حاله وحال أهله خلالها أحسن مما كان عليه
قبلها ؟
إن من راجع نفسه وأخضعها للمحاسبة ، ومن حرص على تصحيح المسيرة وتقويم الخطأ هو
الإنسان المُسلم الذي يعلم أن الله تعالى لم يخلقه عبثًا ، وأنه مسؤولٌ عن نفسه
وعن أهله وعن حياته بما فيها ومن فيها .
و اعلموا بارك الله فيكم أننا جميعًا مقصرون وخطاؤون ، وأن خير الخطائين
التوابون . ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من أفضل أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم
، وأرفعها في درجاتكم ، كثرة صلاتكم وسلامكم على خير الورى ، النبي المصطفى ،
والحبيب المُجتبى محمد بن عبد الله الذي أمرنا ربنا جل في علاه بالصلاة والسلام
عليه فقال عزّ من قائل :
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْه وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ( سورة الأحزاب :
الآية 56 ) .
اللهم إني أسألُك وأتوجه إليك أن تنصر الإسلام وأن تعز المسلمين ، وأن تُعلي
بفضلك كلمتي الحق والدين .
اللهم أعنا على ذكرك وشُكرك وحسن عبادتك .
اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وفرج كروبنا ، وفك أسرنا ، وأرحم الله
ضعفنا ، وأرفع مقتك وغضبك عنا .
اللهم اشف مرضى المُسلمين ، وعاف مبتلاهم ، وارحم موتاهم ، وأرجع غائبهم ، وأهد
ضالهم ، وأطعم جائعهم ، وأمِّن خائفهم ، وأصلح اللهم أحوالهم ، وردهم إليك ردًا
جميلاً .
اللهم من أراد بالعباد والبلاد خيرًا فسدده وأعنه ، ومن أراد غير لك فاكفناه
بما شئت ، اللهم كن لنا ولا تكن علينا ، وزدنا ولا تُنقصنا ، وارفعنا ولا تضعنا
، وبلغنا مما يُرضيك آمالنا واحشُرنا في زُمرة نبينا ، وتحت لواء حبيبنا .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالدي والدينا ، ومن له حقٌ علينا ، وأحسن اللهم
ختامنا ومآلنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعد علينا شهر رمضان أعوامًا عديدة , وأزمنةً مديدة ، اللهم أعده علينا
بصحة وعافية ، اللهم أعده على أمة الإسلام في كل مكان بالعز والنصر والتمكين
والتأييد إنك سميع قريب مجيب الدعاء .
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء ، فلا تحرمنا رحمتك وكرمك بما تراه وتعلمه من
ذنوبنا تقصيرنا ، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أنزل علينا
من خزائن السماء ، وأنبت لنا من بركات الأرض ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت
غفارًا ، فأرسل السماء علينا مدرارا ، وأمددنا بأموالٍ وبنين ، واجعل لنا جناتٍ
، واجعل لنا أنهارا .
عباد الله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، فاذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ،
واستغفروه يغفر لكم ، وأقم الصلاة ....