لهدية مفتاح من مفاتيح القلوب، وسنة هجرها الكثيرون ولم يعيروها
اهتمامهم، رغم لفت الرسول صلى الله عليه وسلم انتباهنا إلى أهميتها، في
عدة أحاديث، منها قوله: “تهادوا تحابوا”، ففي الحديث إشارة إلى أهمية
الهدية ومكانتها وعظيم تأثيرها، فهي إحدى الوسائل التي تملك القلب، وتنفذ
من خلاله للتأثير على الشخص.
وعلى الرغم من كون “الهدية” شيئا ماديا، فإنها تكون سببا في الوصول إلى
قيمة روحية عظيمة ألا وهي “الحب في الله”، فضلا عن أنها تذهب الضغينة،
كما لا يخفى ما للهدية من أثر طيب في توطيد أواصر المحبة وتنمية مشاعر
الود.
والهدية سلوك اجتماعي قديم، عبرت عنه بلقيس زمن سليمان عليه السلام، وسطر
القرآن ذلك حين قال: “وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ
فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ”.
هدايا المصلحة!
وحسب بعض الدراسات الاجتماعية، فإن الهدية تمثل إشباعا اجتماعيا للعلاقات
بين الناس، غير أن الهدية في الإسلام تعكس الانضباط الاجتماعي في
التصرفات؛ ففي دراسة لـ”مارسيل موس” عن بعض قبائل الهنود الحمر التي تعيش
في الجزء الشمالي الغربي من أمريكا أنهم يوزعون أغطية صوفية في حفل كبير،
وهذا يتوجب على من أخذ أن يرد في حفل كبير.
ولكن كل هذه الهدايا يقوم الإنسان بحرقها مع أن قيمتها قد تكون عالية، بل
يدعو غيره إلى إحراق الهدايا ذات القيمة العالية، ويعرف هذا النظام بـ”
نظام البوتلاتش” وهذا نهج يخالف هدي الإسلام؛ لأن الهدية وإن كانت لها
فوائد في العلاقة الإنسانية، فهي أيضا لها فوائد اقتصادية، بل قد تساعد –
أحيانا- في سد حاجة فقير أو معوز.
وهناك نظام للهدايا يعرف بـ”الكولا”، شائع في جزر التروبرياند في المحيط
الهادي وبعض جزر ماليزيا واستراليا، حيث يقدم الشخص ذو المكانة هديته،
مقابل مال، وهي تتم بطريقة المقابلة، لإلقاء هدية من نوع، بهدية من نوع
آخر، وعند نقطة الالتقاء يتم التبادل؛ بخلاف الهدية في الإسلام، فالمقصود
منها إشاعة الحب، وتوطيد العلاقات الاجتماعية، وابتغاء الأجر والثواب من
الله تعالى.
الهدية في السنة
وقد حثت السنة النبوية على الهدية بشكل عام، ولم تحدد فيها هل الهدية
كبيرة أم صغيرة؛ لأن المقصود ما وراء هذه الهدية، إن الحديث عن الحاجة
ومساعدة الآخرين ليس مجاله الهدية، ولكن مجاله الزكاة والصدقة، فالزكاة
والصدقة خطاب الأبدان، أما الهدية فهي خطاب النفس والقلب.
والهدية تعبير مادي يقصد تبليغ رسالة من مقدم الهدية، بأن من قدمت له
يحتل مكانة مميزة في قلب من أهداها له؛ ومن ثَمّ فإن تأثيرها يكون في
القلب قبل أي شيء.
والهدية غالبا ما تكون شيئا ماديا، ولكنها أيضا قد تكون شيئا معنويا،
وهذا المعنى يتوافق مع تعريف علماء الاجتماع للهدية على أنها “هي الأفعال
والخدمات أو الأشياء التي يقدمها الشخص لغيره من الناس دون أن يتوقع منهم
أن يقدموا له أي مقابل لها”.
هدايا النساء
وإن كان للهدية أثر بالغ في حياة الأصدقاء، فإن لها أهمية أكثر في حياة
الجيران، بل طلب الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك من النساء قبل الرجال،
حتى تدوم المودة بين الجيران، وهو ما يجعل من الهدية سلوكا اجتماعيا ذا
بعد إيماني، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم “عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يا نساء
المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة”.
وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة
الفرسن، وهو العظم قليل اللحم؛ لأنه لم تجر العادة بإهدائه أي لا تمنع
جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله بل ينبغي أن تجود لها
بما تيسر وإن كان قليلا فهو خير من العدم. فلا تمنع الهدية لعدم امتلاك
الشيء الكبير، بل تبقى الهدية شيئًا دائما في علاقات الناس، ويهدي الناس
مما عندهم، تعبيرا عن حبهم وألفتهم لجيرانهم، وعلى المهداة إليه أن
يقبلها، وإن كانت شيئا غير نافع له على الإطلاق، إجراء لسنة الهدية.
وذلك لأن إهداء القليل واليسير، وقبوله يعني إسقاط التكلف بين الجيران،
مما يجعل العلاقة بين الجيران قوية حتى يتعاملوا فيما بينهم على سجيتهم،
وذلك لأن الاحتكاك الاجتماعي بين الجيران يومي، فلا يصلح أن يكون بشكل
رسمي، لما في ذلك من الكلفة والمشقة.
ولقد ظهرت الهدية بشكل كبير في المجتمع الإسلامي الأول، فكثيرا ما كان
يهدي الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقبل هديتهم ولا يردها،
وكان هو صلى الله عليه وسلم يهدي بعض أصحابه فيسعدون بهديته، لكنه كان
يرفض الصدقة؛ لأن الصدقة تعني الحاجة، ولكن الهدية يقصد بها الألفة
والمحبة.